التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱذۡكُرۡ إِسۡمَٰعِيلَ وَٱلۡيَسَعَ وَذَا ٱلۡكِفۡلِۖ وَكُلّٞ مِّنَ ٱلۡأَخۡيَارِ} (48)

تعريف بالأسماء المذكورة في الآيات .

وذكر إبراهيم عليه السلام ورد في سور سابقة ، أما الأسماء الأخرى فهذه هي المرة الأولى التي ترد ، ثم تكررت في سورة تالية ، ولقد ذكر إسحاق ويعقوب وإسماعيل عليهم السلام مرارا في سفر التكوين المتداول اليوم بشيء من الإسهاب . وقد ذكرنا لمحة عن إبراهيم عليه السلام في سورة الأعلى فنكتفي الآن بذلك لأن ذكره هنا جاء خاطفا . ومما جاء في هذا السفر عن إسحاق ويعقوب وإسماعيل :

1- إن إسماعيل وإسحاق هما من أبناء إبراهيم ، وإن يعقوب هو ابن إسحاق .

2- إن إسماعيل هو البكر وأمه أمة مصرية اسمها هاجر . وإنه لما ولد غارت زوجة إبراهيم سارة وطلبت إبعاده مع أمه . وأمره وحي الله بتلبية طلبها ووعده بأن سيجعل نسل ابنه أمة عظيمة . وأبعده إلى برية فاران ، حيث استقر وتزوج وصار له اثني عشر ولدا ونمت ذرياتهم نموا عظيما .

3- إن إسحاق ولد لإبراهيم وسارة بعد شيخوختهما وببشارة ومعجزة ربانية ، وكان موضع عناية الله ووعده بأن يجعل من نسله أمة كبيرة . وشاخ ومات ودفن في أرض كنعان .

4- إن يعقوب هو ابن إسحاق وتؤام لأخ له اسمه عيسو الذي كان هو الأول في الولادة ، وإن يعقوب اشترى بكورية أخيه بأكلة عدس واحتال على أبيهحينما شاخ وعمي فقدم له نفسه باسم عيسو وحصل على بركته ودعائه بأن يجعل ذريته هي السيدة على ذرية أخيه وعلى سائر الأمم ، فصار موضع عناية الله وتجلى له مرارا وسماه إسرائيل ، وصار له اثني عشر ولدا من أمهات عديدة . ونمت ذريتهم وصارت اثني عشر سبطا وانتسبوا إلى جدهم الأكبر إسرائيل الذي صار اسما ليعقوب . ونكتفي الآن عنهم بهذه اللمحة ؛ لأنهم ذكروا هنا ذكرا خاطفا . وقد ذكروا في القرآن مرارا بتوسع أكثر وسنعود إلى ذكرهم بتوسع أكثر في المناسبات الآتية . وفي كتب التفسير روايات وبيانات مسهبة عنهم معزوة إلى العلماء من أصحاب رسول الله وتابعيهم ؛ حيث يفيد هذا أن ذكرهم كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة . وليس من مصدر لذلك إلا الجاليات الكتابية والجاليات اليهودية بنوع خاص . أما اليسع فهو على الأرجح اليشاع أحد أنبياء بني إسرائيل الذي ورد ذكره مرارا في سفر الملوك الثاني في الطبعة البروتستانتية والرابع في الطبعة الكاثوليكية وذكر خبر نشاطه ومعجزاته المتعددة وتبليغاته لبني إسرائيل . وقد ذكر مرة أخرى في القرآن في سورة الأنعام في سلسلة الأنبياء بوصفه من ذرية إبراهيم مع إسماعيل ذكرا خاطفا كما ذكر هنا . ولم يرو عنه المفسرون فيما اطلعنا عليه شيئا كثيرا ، وعلى كل حال فإنه هو الآخر كان معروف الاسم والهوية في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ، مثل الذين ذكروا في أسفار العهد القديم على ما هو المتبادر ومن طريق الجاليات اليهودية . وأما ذو الكفل فإن المفسرين رووا في صدده وشخصيته روايات متعددة . منها أنه من أنبياء بني إسرائيل أو من رجالهم الصالحين ، أو أنه ملك عادل تكفل لنبي قومه بالعدل فسمي ذا الكفل ، أو أنه شاب صالح تكفل لنبي قومه بالصيام والصلاة وعدم الغضب ، فوفى بما تكفل به فسمي ذا الكفل أي ذا الحظ من ثواب الله أو ذا الثواب المضاعف ؛ لأن معنى الكفل هو الحظ أو الضعف . ومنها أن اسمه الحقيقي زكريا أو يوشع بن نون أو عدويا . ومنها أنه كان جبارا عاصيا تاب وأناب إلى الله فسمي باسمه . وروى ابن كثير في صدده حديثا وصفه بالغريب رواه الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال : ( سمعت من رسول الله أكثر من مرة يقول : كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع عن ذنب ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل أرعدت وبكت فقال لها : ما يبكيك هل أكرهتك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حملني عليه الحاجة ، قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ، ثم نزل عليها وقال : اذهبي بالدنانير لك ، والله لا يعصي الكفل الله أبدا ، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل ) . وعلى كل حال فالذي نرجحه أن اسمه وشخصيته لم يكونا مجهولين عند سامعي القرآن وأهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة . ومن المحتمل كثيرا الذي يسوغه صيغة الاسم العربية أنه نبي عربي مثل هود وصالح وشعيب . والله أعلم .

تعليق على عدم وصف إسماعيل واليسع وذي الكفل بوصف عبادنا وعدم قرن إسماعيل مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب .

ويلحظ أولا : أن إسماعيل واليسع وذا الكفل قد ذكروا مجردين من تعبير " عبادنا " الذي استعمل في ذكر الأنبياء الآخرين .

وثانيا : أن إسماعيل لم يقرن بإبراهيم وإسحاق ويعقوب مع أنه ابن إبراهيم مثل إسحاق بل ابنه البكر كما قلنا قبل على ما ورد في سفر التكوين وقد تكرر هذا في آيات أخرى مما جعل بعض الأغيار والباحثين يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف بنوة إسماعيل لإبراهيم إلا في العهد المدني حينما احتك باليهود ، فلم يذكر بنوته له إلا في الآيات المدنية . وهذا خطأ فاحش فأبوة إبراهيم لإسماعيل وأبوة إسماعيل للعدنانيين مما كان متداولا بل راسخا عند العرب قبل البعثة النبوية على ما هو المتواتر وعلى ما تلهمه آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة البقرة هذه : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمام قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين124 وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود125 وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير126 وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم127 ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم128 ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم129 } وهذا فضلا عن أن بنوة إسماعيل لإبراهيم قد ذكرت في آية مجمع على مكيتها وهي آية سورة إبراهيم هذه : { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء39 } وقد ذكرت آية أخرى أن إسماعيل من ذرية إبراهيم وهي آية سورة الأنعام هذه : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين84 وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين85 وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين86 } .

ونقول من قبيل المساجلة : إن بنوة إسماعيل لإبراهيم وبكريته مذكورتان في إصحاحات عديدة من سفر التكوين . وكان في مكة جاليات كتابية تتداول هذا السفر . وهذا يعني أن هذا الأمر لم يكن ليخفى في مكة قبل البعثة . فضلا عن أن اليهود لم يكونوا منقطعين عن مكة ؛ حيث كان منهم المقيم فيها والمتردد عليها ومنهم من آمن فيها برسالة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرته آية سورة الأحقاف المكية هذه : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين10 } فليس من الضروري أن يكون علم النبي بذلك قد تأخر حتى هاجر إلى المدينة .

ولعل قرن إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مقام واحد هنا وفي المواضع الأخرى قد قصد به الإشارة إلى كونهم هم أصل سلسلة أنبياء بني إسرائيل ، في حين لم يكن إسماعيل أصلا لها . ويؤيد هذا أن عيسو لم يذكر مع أنه الابن الأول لإسحاق ؛ لأنه ليس أصلا لهذه السلسلة ، وأنه حينما اقتضت حكمة التنزيل وسياقه في مكة ذكر بنوة إسماعيل مع بنوة إسحاق لإبراهيم ذكر ذلك كما جاء في آية سورة إبراهيم المكية الآنفة الذكر ، وقدم فيها إسماعيل لأنه البكر . أما مسألة ورود إسماعيل واليسع وذي الكفل بدون عبارة " عبادنا " دون الأنبياء السابقين ، فإن حكمة ذلك خافية علينا ، مع التنبيه إلى أننا لا نرى في هذا المقام قرينة مؤيدة لقصد دلالة التفضيل ، ولعل عطف الآية [ 48 ] على ما سبقها ينطوي فيه معنى العطف على وصف عبادنا أيضا . والله أعلم .