وكذلك يشهد الله - سبحانه - لإسماعيل واليسع وذي الكفل أنهم من الأخيار . ويوجه خاتم أنبيائه وخير رسله صلى الله عليه وسلم ليذكرهم ويعيش بهم ، ويتأمل صبرهم ورحمة الله بهم . ويصبر على ما يلقاه من قومه المكذبين الضالين . فالصبر هو طريق الرسالات . وطريق الدعوات . والله لا يدع عباده الصابرين حتى يعوضهم من صبرهم خيراً ورحمة وبركة واصطفاء . . وما عند الله خير . وهان كيد الكائدين وتكذيب المكذبين إلى جانب رحمة الله ورعايته وإنعامه وإفضاله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مّنَ الأخْيَارِ } :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : واذكر يا محمد إسماعيل واليسع وذا الكِفل ، وما أبلْوا في طاعة الله ، فتأسّ بهم ، واسلك منهاجَهم في الصبر على ما نالك في الله ، والنفاذ لبلاغ رسالته . وقد بيّنا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . والكِفْل في كلامِ العرب : الحظّ والجَدّ .
و { الأخيار } جمع خير ، وخير : مخفف من خير كميت وميت .
وقرأ حمزة والكسائي : «والَّلْيسع » ، كأنه أدخل لام التعريف على { اليسع } ، فأجراه مجرى ضيغم ونحوه ، وهي قراءة علي بن أبي طالب والكوفيين . وقرأ الباقون : «واليسع » ، قال أبو علي : الألف واللام فيه زائدتان غير معرفتين كما هي في قول الشاعر : [ الكامل ]
ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً***ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
فُصل ذكر إسماعيل عن عدّه مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية ، أي معظمِها فإنه أبو العدنانيين . وجدّ للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا .
وأمّا قرنه ذِكرَه بذكر اليسَع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله : { وكُلٌّ مِنَ الأخيارِ } ، لأن التماثل في الخيريّة والاصطفاء ثابت لجميع الأنبياء والمرسلين ، فلا يكون ذكرُهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء ، فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في « المفتاح » ، قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله :
لا والذي هو عالم أن النوى *** صبر وأن أبا الحسين كريم{[355]}
حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعلق علم الله بهما وذلك مساوٍ لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية .
فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسّنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل . فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس ( إيليا ) وكان إلياس يدافع ملوك يهوذا وملوكَ إسرائيل عن عبادة الأصنام ، وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم ، وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبيّن في سفر « الملوك الثاني » الإصحاح ( 1 2 ) .
وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء ( 85 ) { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين . وقرأ الجمهور { الْيسع } بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف ، فدع عنك ما أطالوا به . وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجميّ معرب ، والهمزة واللام ، أوْ واللامان أصلية .
وتنوين { كلٌ } في قوله : { وكُلٌّ من الأخيارِ } عوض عن المضاف إليه ، أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار . وتقدم ذكر اليَسع في سورة الأنعام ، وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... اختارهم الله عز وجل للنبوة، فاصبر يا محمد على الأذى كما صبر هؤلاء الستة على البلاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إسماعيل واليسع وذا الكِفل، وما أبلْوا في طاعة الله، فتأسّ بهم، واسلك منهاجَهم في الصبر على ما نالك في الله، والنفاذ لبلاغ رسالته. وقد بيّنا قبل من أخبار إسماعيل واليسع وذا الكفل فيما مضى من كتابنا هذا ما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. والكِفْل في كلامِ العرب: الحظّ والجَدّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل {واذكر} وجوها على ما ذكرنا:
الثاني: اذكر حسن معاملة هؤلاء ربهم وحسن سيرتهم في ما بين الخلق لتعامل أنت ربك مثل معاملتهم ومثل سيرتهم.
والثالث: اذكر هؤلاء ومن ذكر، أي أثن عليهم بحسن الثناء، واذكرهم بخير ما أثنى عليهم الله عز وجل، وأمر الناس أن يثنوا عليهم على ما تقدم ذكره؛ ليكونوا أبدا أحياء بحسن الثناء والذكر.
والرابع: اذكر هؤلاء أن كيف عاملهم الله واختارهم لرسالته، وما ذكر الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أتم الأمر بذكر الخليل وابنه عليهما السلام، الذي لم يخرج من كنفه قط، ونافلته المبشر به للتأسي بهم في صبرهم على الدين وإن خالفهم من خالفهم، أتبعه ولده الذي أمر بالتجرد عنه: مرة بالإسكان عند البيت الحرام ليصير أصلاً برأسه في أشرف البقاع، ومرة بالأمر بذبحه في تلك المشاعر الكرام، فصار ما أضيف إليه من الأحوال والأفعال من المناسك العظام عليه الصلاة والسلام، وأفرده بالذكر دلالة على أنه أصل عظيم برأسه من أصول الأئمة الأعلام، فقال:
{واذكر إسماعيل} أي أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والانفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة، وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرئاسة والذكر في هذه البلدة.
{واليسع} أي الذي استخلفه إلياس عليه السلام على بني إسرائيل فجمعهم الله عليه بعد ذلك الخلاف الشديد الذي كان منهم لإلياس عليه السلام.
{وذا الكفل} أي النصيب العظيم بالوفاء بما يكفله من كل أمر عليّ، وعمل صالح زكي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فُصل ذكر إسماعيل عن عدّه مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق؛ لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية، أي معظمِها فإنه أبو العدنانيين، وجدّ للأم لمعظم القحطانيين؛ لأن زوج إسماعيل جُرْهُميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا، وأمّا قرنه ذِكرَه بذكر اليسَع وذي الكفل، بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة، وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله: {وكُلٌّ مِنَ الأخيارِ}؛ لأن التماثل في الخيريّة والاصطفاء ثابت لجميع الأنبياء والمرسلين، فلا يكون ذكرُهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء، فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في « المفتاح» فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسّنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل؟
فأما عطف اليسع على إسماعيل؛ فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم؛ لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس (إيليا) وكان إلياس يدافع ملوك يهوذا وملوكَ إسرائيل عن عبادة الأصنام، وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم...
وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء (85) {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين}.