وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم ، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم ؛ وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث . . عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم ؛ ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها ، وانطماس بصيرتهم وعماها .
( فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) .
وهو يصورهم موتى لا حياة فيهم ، صما لا سمع لهم ، عميا لا يهتدون إلى طريق . . والذي ينفصل حسه عن الوجود فلا يدرك نواميسه وسننه ميت لا حياة فيه . إنما هي حياة حيوانية ، بل أضل وأقل ، فالحيوان مهدي بفطرته التي قلما تخونه ! والذي لا يستجيب لما يسمع من آيات الله ذات السلطان النافذ في القلوب أصم ولو كانت له أذنان تسمعان ذبذبة الأصوات ! والذي لا يبصر آيات الله المبثوثة في صفحات الوجود أعمى ولو كانت له عينان كالحيوان !
( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . .
وهؤلاء هم الذين يسمعون الدعوة ، لأن قلوبهم حية ، وبصائرهم مفتوحة ، وإدراكهم سليم . فهم يسمعون فيسلمون . ولا تزيد الدعوة على أن تنبه فطرتهم فتستجيب .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىَ وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَآءَ إِذَا وَلّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مّسْلِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فإنّكَ يا محمد لا تُسْمِعُ المَوْتَى يقول : لا تجعل لهم أسماعا يفهمون بها عنك ما تقول لهم ، وإنما هذا مثل معناه : فإنك لا تقدر أن تفهم هؤلاء المشركين الذين قد ختم الله على أسماعهم ، فسلبهم فهم ما يُتلى عليهم من مواعظ تنزيله ، كما لا تقدر أن تفهم الموتى الذين قد سلبهم الله أسماعهم ، بأن تجعل لهم أسماعا .
وقوله : وَلا تُسْمِعُ الصّمّ الدّعاءَ يقول : وكما لا تقدر أن تُسمع الصمّ الذين قد سلبوا السمع الدعاء ، إذا هم وَلّوا عنك مدبرين ، كذلك لا تقدر أن توفق هؤلاء الذين قد سلبهم الله فهمَ آيات كتابه ، لسماع ذلك وفهمه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : فإنّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى : هذا مَثَل ضربه الله للكافر فكما لا يسمع الميت الدعاء ، كذلك لا يسمع الكافر . وَلا تُسْمِعُ الصّمّ الدّعاءَ إذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ يقول : لو أن أصمّ ولّى مدبرا ثم ناديته لم يسمع ، كذلك الكافر لا يسمع ولا ينتفع بما يسمع .
وقوله تعالى : { فإنك لا تسمع الموتى } الآية استعارة للكافر وقد تقدم القول على مثل هذه الآية في سورة النمل{[9333]} ، وكلهم قرأ «ولا تُسمع » بتاء مضمومة ونصب «الصمَّ » ، وقرأ ابن كثير وعباس عن أبي عمرو «يَسمع » بياء مفتوحةً الصمُّ رفعاً .
الفاء للترتيب على قوله { لظلوا من بعده يكفرون } [ الروم : 51 ] المفيد أن الكفر غالب أحوالهم لأنهم بين كفر بالله وبين إعراض عن شكره ، أو الفاء فصيحة تدل على كلام مقدر ، أي إن كبر عليك إعراضهم وساءك استرسالهم على الكفر فإنهم كالموتى وإنك لا تسمع الموتى . وهذا معذرة للنبيء صلى الله عليه وسلم ونداء على أنه بذل الجهد في التبليغ . وفيما عدا الفاء فالآية نظير التي في آخر سورة النمل ونزيد هنا فنقول : إن تعداد التشابيه منظور فيه إلى اختلاف أحوال طوائف المشركين فكان لكل فريق تشبيه : فمنهم من غلب عليهم التوغل في الشرك فلا يصدقون بما يخالفه ولا يتأثرون بالقرآن والدعوة إلى الحق ؛ فهؤلاء بمنزلة الأموات أشباح بلا إدراك ، وهؤلاء هم دهماؤهم وأغلبهم ولذلك ابتدىء بهم . ومنهم من يُعرض عن استماع القرآن وهم الذين يقولون : { في ءاذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] ويقولون : { لا تسمعوا لهذا القرآن والْغَوْا فيه } [ فصلت : 26 ] وهؤلاء هم ساداتهم ومدبّرو أمرهم يخافون إن أصْغوا إلى القرآن أن يملك مشاعرهم فلذلك يتباعدون عن سماعه ، ولهذا قُيِّد الذي شبهوا به بوقت توليهم مدبرين إعراضاً عن الدعوة ، فهو تشبيه تمثيل . ومنهم من سلكوا مسلك ساداتهم واقتفوا خُطاهم فانحَرفت أفهامهم عن الصواب فهم يسمعون القرآن ولا يستطيعون العمل به ، وهؤلاء هم الذين اعتادوا متابعة أهوائهم وهم الذين قالوا : { إنّا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] ويحصل من جميع ذلك تشبيه جماعتهم بجماعة تجمع أمواتاً وصماً وعمياً فليس هذا من تعدد التشبه لمشبهٍ واحد كالذي في قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] .
وقرأ الجمهور : { ولا تسمع الصمّ } بتاء فوقية مضمومة وكسر ميم { تُسمِع } ونصب { الصمَّ } ، على أنه خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وقرأه ابن كثير { ولا يَسمع الصمُّ } بتحتية مفتوحة وبفتح ميم { يسْمَع } ورفع { الصمّ } على الفاعلية ل { يَسمع } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.