ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار ، ويسري عنه ، ويؤنسه ، ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه :
( فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا ) . .
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلا . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك ، فخف حملك ، الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحبا للعسر ، يرفع إصره ، ويضع ثقله .
قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها ، من جهاد هؤلاء المشركين ، ومِن أوّله : ما أنت بسبيله ، رجاءً وفرجا بأن يُظْفِرَك بهم ، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها .
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذه الاَية لما نزلت ، بَشّر بها أصحابه وقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت يونس ، قال : قال الحسن : لما نزلت هذه الاَية فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبْشِرُوا أتاكُمُ اليُسْرُ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما مسرورا فَرِحا وهو يضحك ، وهو يقول : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَإنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر أصحابه بهذه الاَية ، فقال : «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن » .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن معاوية بن قرة أبي إياس ، عن رجل ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : لو دخل العسر في جُحْر ، لجاء اليسر حتى يدخل عليه ، لأن الله يقول : فَإنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا إنّ مَعَ العُسْرِ يُسْرا .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة ، عن رجل ، عن عبد الله ، بنحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرا قال : يتبع اليسرُ العُسرَ .
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا ، أي إذا علمت هذا وتقرر ، تعلَمُ أن اليسر مصاحب للعسر ، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبةُ اليسر للعسر مقتضيةً نقضَ تأثير العسر ومبطلة لعمله ، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق ، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله .
وسياق الكلام وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن يُيَسر اللَّهُ له المصاعب كلَّما عرضت له ، فاليسر لا يتخلف عن اللحاق بتلك المصاعب ، وذلك من خصائص كلمة { مع } الدالة على المصاحبة .
وكلمة { مع } هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معاً مستحيلة ، فتعين أن المعيّة مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره ، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية . وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى : { سيجعل اللَّه بعد عسر يسراً } في سورة الطلاق ( 7 ) .
فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبيء ، وآية سورة الطلاق عامة ، وللبعْدية فيها مراتب متفاوتة .
فالتعريف في { العسر } تعريف العهد ، أي العسر الذي عَهِدْتَه وعلمتَه وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن ( ال ) فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] أي فإن مع عُسرك يسراً ، فتكون السورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى .
وعد الله تعالى نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق وعده له بقوله : { ونيسرك لليسرى } [ الأعلى : 8 ] .
وحرف { إنْ } للاهتمام بالخبر .
وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر : ( إنَّ ) تغني غَناء فاء التسبب ، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو اقتصر عَلى حرف ( إنّ ) لفات معنى الفصيحة .
وتنكير { يسراً } للتعظيم ، أي مع العسر العارض لك تيسيراً عظيماً يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعداً للنبيء صلى الله عليه وسلم ولأمته لأن ما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شؤون دعوته للدين ولصالح المسلمين .
وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحَسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت هذه الآية : { فإن مع العسر يسراً } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين " فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل تعمّه وأمته . وفي « الموطإ » « أن أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يَذْكُر له جموعاً من الروم وما يُتخوف منهم فكتب إليه عمر : « أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجاً وإنه لن يغلب عسر يسرين » .
وروى ابن أبي حاتم والبزار في « مُسنده » عن عائذِ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول : « كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله حَجَر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحَجَر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيُخرجه فأنزل الله عز وجل : { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } . قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير : وقد قال أبو حاتم الرازي : في حديث عائذ بن شريح ضعف .
وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفاً ، ويجوز أن تكون جملة : { فإن مع العسر يسراً } معترضة بين جملة { ورفعنا لك ذكرك } [ الشرح : 4 ] وجملة : { فإذا فرغت فانصب } [ الشرح : 7 ] تنبيهاً على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وأنه لولا ذلك لهلك الناس قال تعالى { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة } [ النحل : 61 ] .
وروي عن ابن عباس : يقول الله تعالى خلقت عسراً واحداً وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين ا ه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإنّ مع الشدّة التي أنت فيها ، من جهاد هؤلاء المشركين ، ومِن أوّله : ما أنت بسبيله ، رجاءً وفرجا بأن يُظْفِرَك بهم ، حتى ينقادوا للحقّ الذي جئتهم به طوعا وكَرها .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم : إنما كان عسرا واحدا ، وإن ذكره مرتين ، لأن العسر الثاني ذكره بحرف التعريف فهو والأول واحد ، واليسر ذكره ، بحرف النكرة ، فهو غير الأول ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والعُسْر الواحد : ما كان في الدنيا ، واليسران : أحدهما في الدنيا في الخصب ، وزوال البلاء ، والثاني في الآخرة من الجزاء، وإذاً فعُسْرُ جميع المؤمنين واحد هو ما نابهم من شدائد الدنيا ، ويُسْرُهم اثنان : اليومَ بالكَشْفِ والصَّرْفِ ، وغداً بالجزاء . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت : كيف تعلق قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } بما قبله ؟ قلت : كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة ، حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم ، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ( 5 ) } كأنه قال : خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً . ...
الأول : ما معنى التنكير في اليسر ؟
( جوابه ) : التفخيم ، كأنه قيل : إن مع اليسر يسرا { إن مع العسر يسرا } عظيما ، وأي يسر .
السؤال الثاني : اليسر لا يكون مع العسر ، لأنهما ضدان فلا يجتمعان.
( الجواب ) : لما كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل ، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ فإن } أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن { مع العسر } أي هذا النوع خاصة { يسراً } أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح ، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال ، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها ، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب ...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
{ فإن مع العسر } ، أي : ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم { يسراً } ، أي : كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسراً .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا ) . . إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلا . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك ، فخف حملك ، الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحبا للعسر ، يرفع إصره ، ويضع ثقله . ...