ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : " إن ربك لبالمرصاد " تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك ! . . بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج التي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن - ولا يزال - يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .
" إن ربك لبالمرصاد " . . يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء . . فأما الإنسان فتخطئ موازينه وتضل تقديراته ، ولا يرى إلا الظواهر ، ما لم يتصل بميزان الله :
وقوله : إنّ رَبّكَ لَبِالمِرْصَادِ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين قصصت عليك قَصَصَهم ، ولضُرَبائهم من أهل الكفر به ، لبالمِرصاد يرصدهم بأعمالهم في الدنيا وفي الاَخرة ، على قناطر جَهَنم ، ليكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة .
واختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى قوله : لَبِالمِرْصَادِ بحيث يرى ويسمع . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ رَبّكَ لَبِالمِرْصَادِ يقول : يَرى ويسمع .
وقال آخرون : يعني بذلك أنه بمَرصد لأهل الظلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن المبارك بن مجاهد ، عن جُويبر ، عن الضحاك في هذه الاَية ، قال : إذا كان يوم القيامة ، يأمر الربّ بكرسيه ، فيوضع على النار ، فيستوي عليه ، ثم يقول : وعزّتي وجلالي ، لا يتجاوزني اليوم ذو مَظلِمة ، فذلك قوله : لَبِالمِرْصَادِ .
قال : ثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو بن قيس ، قال : بلغني أن على جهنم ثلاث قناطر : قنطرة عليها الأمانة ، إذا مرّوا بها تقول : يا ربّ هذا أمين ، يا ربّ هذا خائن وقنطرة عليها الرحِم ، إذا مرّوا بها تقول : يا ربّ هذا واصل ، يا ربّ هذا قاطع وقنطرة عليها الربّ إنّ رَبّكَ لَبِالمِرْصادِ .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان إنّ رَبّكَ لَبِالمِرْصَادِ يعني : جهنم عليها ثلاث قناطر : قنطرة فيها الرحمة ، وقنطرة فيها الأمانة ، وقنطرة فيها الربّ تبارك وتعالى .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن إنّ رَبّكَ لَبِالمِرْصَادِ قال : مِرْصاد عمل بني آدم .
وجملة : { إن ربك لبالمرصاد } تذييل وتعليل لإِصابتهم بسوط عذاب إذا قُدِّر جواب القسم محذوفاً . ويجوز أن تكون جواب القَسَم كما تقدم آنفاً .
فعلى كون الجملة تذييلاً تكون تعليلاً لجملة { فصب عليهم ربك سوط عذاب } تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحاً للمعاندين بما عَرَّض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأولين . أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد .
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدوّ ونحوه ، وهو المقسم عليه وما قبله اعتراضاً تفنناً في نظم الكلام إذْ قُدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } الخ ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذّ يُجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلةِ إذا كان الكلام صالحاً للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدَّم والمبادرة به .
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى { ربك } في قوله : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } وقوله : { إن ربك لبالمرصاد } إيماء إلى أن فاعل ذلك رَبه الذي شأنه أن ينتصر له ، فهو مُؤمّل بأن يعذب الذين كذبوه انتصاراً له انتصارَ المولى لوليّه .
والمرصاد : المكان الذي يَترقب فيه الرَّصد ، أي الجماعة المراقبون شيئاً ، وصيغةُ مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة ، فمعنى الآلة هنا غير محتمل ، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب .
وتعريف « المرصاد » تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلِّق ، أي بالمرصاد لكل فاعل ، فهو تمثيل لعموممِ علم الله تعالى بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم ، بحال اطلاع الرصَد على تحركات العدُوّ والمغيرين ، وهذا المثلُ كناية عن مجازاة كل عامل بما عمِله وما يعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاءِ على العدوان ، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.