كذلك كان اليهود يبدئون ويعيدون في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة ، بعد أن صلى رسول الله [ ص ] إلى بيت المقدس حتى الشهر السادس عشر أو السابع عشر من الهجرة . . ومع أن هذا الموضوع قد نوقش مناقشة كاملة وافية في سورة البقرة من قبل ، وتبين أن اتخاذ الكعبة قبلة للمسلمين هو الأصل وهو الأولى ، وأن اتخاذ بيت المقدس هذه الفترة كان لحكمة معينة بينها الله في حينها . . مع هذا فقد ظل اليهود يبدئون في هذا الموضوع ويعيدون ، ابتغاء البلبلة والتشكيك واللبس للحق الواضح الصريح - على مثال ما يصنع اليوم أعداء هذا الدين بكل موضوع من موضوعات هذا الدين ! وهنا يرد الله عليهم كيدهم ببيان جديد .
( قل : صدق الله ، فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين . إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين . فيه آيات بينات : مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا . ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) . .
ولعل الإشارة هنا في قوله : ( قل صدق الله . . )تعني ما سبق تقريره في هذا الأمر ، من أن هذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل ليكون مثابة للناس وأمنا ، وليكون للمؤمنين بدينه قبلة ومصلى : ومن ثم يجيء الأمر باتباع إبراهيم في ملته . وهي التوحيد الخالص المبرأ من الشرك في كل صورة :
( فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ) .
واليهود كانوا يزعمون أنهم هم ورثة إبراهيم . فها هو ذا القرآن يدلهم على حقيقة دين إبراهيم ؛ وأنه الميل عن كل شرك . ويؤكد هذه الحقيقة مرتين : مرة بأنه كان حنيفا . ومرة بأنه ما كان من المشركين . فما بالهم هم مشركين ! !
{ قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّبِعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : قل يا محمد : صدق الله فيما أخبرنا به من قوله : { كُلُ الطّعامِ كانَ حِلاّ لِبَني إسْرَائِيلَ } وأن الله لم يحرّم على إسرائيل ولا على ولده العروق ولا لحومَ الإبل وألبانها ، وأن ذلك إنما كان شيئا حرّمه إسرائيل على نفسه وولده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة ، وفي كل ما أخبر به عباده من خبر دونكم وأنتم يا معشر اليهود الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة ، المفترية على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحقّ { فاتّبِعُوا مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يقول : فإن كنتم أيها اليهود محقين في دعواكم أنكم على الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله ، فاتبعوا ملة إبراهيم خليل الله ، فإنكم تعلمون أنه الحقّ الذي ارتضاه الله من خلقه دينا ، وابتعث به أنبياءه ، وذلك الحنيفة ، يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه ، دون اليهودية والنصرانية والمشركة . وقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يقول : لم يكن يشرك في عبادته أحدا من خلقه ، فكذلك أنتم أيضا أيها اليهود ، فلا يتخذ بعضكم بعضا أربابا من دون الله ، تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه . وأنتم يا معشر عبدة الأوثان ، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابا ، ولا تعبدوا شيئا من دون الله ، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينه إخلاص العبادة لربه وحده ، من غير إشراك أحد معه فيه ، فكذلك أنتم أيضا ، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدا ، فإن جميعكم مُقِرّون بأن إبراهيم كان على حقّ وهدى مستقيم ، فاتبعوا ما قد أجمع جميعكم على تصويبه من ملته الحنيفية ، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائل الملل غيرها أيها الأحزاب ، فإنها بدع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حقّ ، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صواب وحقّ من ملة إبراهيم هو الحقّ الذي ارتضيته وابتعثت به أنبيائي ورسلي ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءني به يوم القيامة . وإنما قال جلّ ثناؤه : { وَمَا كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ } يعني به : وما كان من عددهم وأوليائهم ، وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم ، ونصرة بعضهم بعضا ، فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو من نصرائهم وأهل ولايتهم . وإنما عنى جلّ ثناؤه بالمشركين : اليهود والنصارى ، وسائر الأديان غير الحنيفية ، قال : لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة ، ولكنه كان حنيفا مسلما .
{ قل صدق الله } تعريض بكذبهم ، أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون . { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم ، أو مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيوية ، وألزمتكم تحريم طيبات أحلها الله لإبراهيم ومن تبعه . { وما كان من المشركين } فيه إشارة إلى أن اتباعه واجب في التوحيد الصرف والاستقامة في الدين والتجنب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود .
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يصدع بالخلاف والجدال مع الأحبار بقوله { قل صدق الله } أي الأمر كما وصف لا كما تكذبون أنتم ، فإن كنتم تعتزون بإبراهيم فاتبعوا ملته على ما ذكر الله ، وقرأ أبان بن تغلب : «قل صدق » ، بإدغام اللام في الصاد ، وكذلك : { قل سيروا } ، قرأها بإدغام اللام في السين ، قال أبو الفتح : علة جواز ذلك فشو هذين الحرفين في الفم وانتشار الصدى المنبث عنهما فقاربا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامهما فيهما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.