ثم يستثني من لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر ؛ والتعرض للفتنة في الدين ؛ والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال ؛ فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته . بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار :
( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان ؛ متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين ، وفي بيئة معينة . . يمضي حكما عاما ؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض ؛ وتمسكه أمواله ومصالحه ، أو قراباته وصداقاته ؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها . متى كان هناك - في الأرض في أي مكان - دار للإسلام ؛ يأمن فيها على دينه ، ويجهر فيها بعقيدته ، ويؤدي فيها عباداته ؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله ، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة . .
{ إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلََئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً * إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلََئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ } : إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة { ظالِمِي أنْفُسِهِمْ } يعني : مكسبي أنفسهم غضب الله وسخطه . وقد بينا معنى الظلم فيما مضى قبل . { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } يقول : قالت الملائكة لهم : فيم كنتم ، في أيّ شيء كنتم من دينكم . { قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْض } يعني : قال الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم : كنا مستضعفين في الأرض ، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوّتهم ، فيمنعونا من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، معذرةٌ ضعيفة وحجةٌ واهية .
{ قَالُوا ألَمْ تَكُنْ أرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها } يقول : فتخرجوا من أرضكم ودوركم ، وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض التي يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله ، فتوحدوا الله فيها وتعبدوه ، وتتبعوا نبيه ؟ يقول الله جلّ ثناؤه : { فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ } : أي فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، مأواهم جهنم ، يقول : مصيرهم في الاَخرة جهنم ، وهي مسكنهم .
{ وَساءَتْ مَصيرا } يعني : وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها مصيرا ومسكنا ومأوى . ثم استثنى جلّ ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان ، وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام من القوم الذين أخبر جلّ ثناؤه أن مأواهم جهنم أن تكون جهنم مأواهم ، للعذر الذي هم فيه ، على ما بينه تعالى ذكره . ونصب المستضعفين على الاستثناء من الهاء والميم اللتين في قوله : { فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ } ، يقول الله جلّ ثناؤه :
{ فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } يعني : هؤلاء المستضعفين ، يقول : لعلّ الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون ، فيتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة ، إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الإسلام ، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها . { وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا } يقول : ولم يزل الله عفوّا ، يعني ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بتركه العقوبة عليها ، غفورا ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها . وذكر أن هاتين الاَيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله ، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر ، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن ، وشهد مع المشركين حرب المسلمين ، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها ، التي بينها في قوله خبرا عنهم : { قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } .
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا من نزول الاَية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا ابن فضيل ، قال : حدثنا أشعث ، عن عكرمة : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } قال : كان ناس من أهل مكة أسلموا ، فمن مات منهم بها هلك ، قال الله : { فأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّسَاء وَالوِلْدانِ } إلى قوله : { عَفُوّا غَفُورا } قال ابن عباس : فأنا منهم وأمي منهم ، قال عكرمة : وكان العباس منهم .
حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ، فاستغفروا لهم . فنزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } . . . الاَية ، قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الاَية ، وأنه لا عذر لهم . قال : فخرجوا ، فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ } . . . إلى آخر الاَية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نزلت فيهم : { ثُمّ إن رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبُروا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فكتبوا إليهم بذلك : إن الله قد جعل لكم مخرجا . فخرجوا ، فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقُتل من قتل .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني حيوة أو ابن لهيعة ، الشكّ من يونس عن أبي الأسود ، أنه سمع مولى لابن عباس يقول عن ابن عباس : إن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيأتى السهم يُرْمَى به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله فيهم : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } ، حتى بلغ : { فَتُهاجِرُوا فِيهَا } .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء قال : أخبرنا حيوة ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسديّ ، قال : قُطع على أهل المدينة بعث ، فاكتتبتُ فيه ، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس ، فنهاني عن ذلك أشدّ النهي . ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا مسلمين كانوا مع المشركين¹ ثم ذكر مثل حديث يونس عن ابن وهب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } هم قوم تخلفوا بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وتركوا أن يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } . . . إلى قوله : { وَساءَتْ مَصيرا } قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليد بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج وعليّ بن أمية بن خلف . قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وغير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نِيلَ منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشبان كارهين كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفارا ، ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم . قال ابن جريج وقال مجاهد : نزلت هذه الاَية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش . قال ابن جريج وقال عكرمة : لما نزل القرآن في هؤلاء النفر ، إلى قوله : { وَساءَتْ مَصيرا إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ } قال : يعني : الشيخ الكبير ، والعجوز والجواري والصغار والغلمان .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . إلى قوله : { وَساءَتْ مَصيرا } قال : لما أسر العباس وعقيل ونوفل ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : «افْدِ نفسكَ وابنَ أخيكَ ! » قال : يا رسول الله ألم نصلّ قبلتك ، ونشهد شهادتك ؟ قال : «يا عَبّاسُ أنّكُمْ خاصَمْتُمْ فَخُصِمْتُمْ » ، ثم تلا هذه الاَية : { ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فأولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَساءَتْ مَصيرا } فيوم نزلت هذه الاَية كان من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر ، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، حيلة في المال ، والسبيل : الطريق . قال ابن عباس : كنت أنا منهم من الولدان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت عكرمة يقول : كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله ، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم ، فقتلوا ، فنزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . إلى قوله : { أُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا } فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين الذين بمكة . قال : فخرج ناس من المسلمين حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون فأدركوهم ، فمنهم من أعطى الفتنة ، فأنزل الله فيهم : { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُوْلُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذَابِ اللّهِ } . فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة ، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة : { ثُمّ إنّ رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْد ما فُتِنُوا ثّم جاهَدُوا } . . . إلى { غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قال ابن عيينة : أخبرني محمد بن إسحاق في قوله { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ } قال : هم خمسة فتية من قريش : عليّ بن أمية ، وأبو قيس بن الفاكه ، وزمعة بن الأسود ، وأبو العاص بن منبه ، ونسيت الخامس .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . الاَية ، حْدّثنا أن هذه الاَية أنزلت في أناس تكلموا بالإسلام من أهل مكة ، فخرجوا مع عدوّ الله أبي جهل ، فقتلوا يوم بدر ، فاعتذروا بغير عذر ، فأبى الله أن يقبل منهم . وقوله { إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حيلَةٌ وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلاً } أناس من أهل مكة عذرهم الله ، فاستثناهم فقال : { أولَئِكَ عَسَى الله أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا } قال : وكان ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . الاَية ، قال : أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يخرجوا معه إلى المدينة ، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر ، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب ، فأنزل الله فيهم هذه الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : سألته ، يعني ابن زيد ، عن قول الله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } فقرأ حتى بلغ : { إلاّ المُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ والوِلْدَان } فقال : لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وظهر ونَبَع الإيمان نَبَع النفاق منه ، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالٌ ، فقالوا : يا رسول الله ، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يعذبوننا ويفعلون ويفعلون لأسلمنا ، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ! فكانوا يقولون ذلك له . فلما كان يوم بدر قام المشركون ، فقالوا : لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره واستبحنا ماله ! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم ، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة . قال : فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله فيهم : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ } . . . الاَية كلها { ألمْ تكُن أرضُ اللّهِ واسعةً فتهاجرُوا فيهَا } وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم { أولئكَ مَأواهُم جَهَنمُ وساءَتْ مَصيرا } . قال : ثم عذر الله أهل الصدق فقال : { إلاّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم إقامتهم بين ظهري المشركين . وقال الذين أسروا : يا رسول الله إنك تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفا ! فقال الله : { يا أيّها النّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا ممّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ } صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَإنْ يُريدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ } خرجوا مع المشركين { فأمْكنَ مِنهُم واللّهُ عَليمٌ حَكيمٌ } .
حدثني محمد بن خالد بن خداش ، قال : ثني أبي ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس : أنه قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { إلاّ الُمسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجالِ وَالنّساءِ وَالولْدَانِ } قال ابن عباس : أنا من المستضعفين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } قال : من قتل من ضعفاء كفار قريش يوم بدر .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عليّ بن زيد ، عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر : «اللّهُمّ خَلّصِ الَولِيدَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ وَعَيّاشَ بْنَ أبي رَبِيعَةَ وَضَعَفَةَ المُسْلِمِينَ مِنْ أيْدِي المُشْرِكِينَ الّذِينَ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً » .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } قال : مؤمنون مستضعفون بمكة ، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش . فأنزل الله فيهم : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } . . . الاَية .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد نحوه .
وأما قوله : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فإن معناه كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة في قوله : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } قال : نهوضا إلى المدينة¹ { وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } : طريقا إلى المدينة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } : طريقا إلى المدينة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسن ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : الحيلة : المال ، والسبيل : الطريق إلى المدينة .
وأما قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ } ففيه وجهان : أحدهما أن يكون «توفاهم » في موضع نصب بمعنى المضيّ ، لأن «فَعَلَ » منصوبة في كلّ حال . والاَخر أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال ، يراد به : إن الذين تتوفاهم الملائكة . فتكون إحدى التاءين من توفاهم محذوفة ، وهي مرادة في الكلمة ، لأن العرب تفعل ذلك إذا اجتمعت تاءان في أوّل الكلمة ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى ، وربما أثبتتهما جميعا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى أهل العذر، فقال سبحانه: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان}، فليس مأواهم جهنم، {لا يستطيعون حيلة}: ليس لهم سعة للخروج إلى المدينة، {ولا يهتدون سبيلا}: ولا يعرفون طريقا إلى المدينة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم استثنى جلّ ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون من الرجال والنساء والولدان، وهم العجزة عن الهجرة بالعسرة وقلة الحيلة وسوء البصر والمعرفة بالطريق من أرضهم أرض الشرك إلى أرض الإسلام من القوم الذين أخبر جلّ ثناؤه أن مأواهم جهنم أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. يقول الله جلّ ثناؤه: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللّهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}: هؤلاء المستضعفين، يقول: لعلّ الله أن يعفو عنهم للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيتفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، إذ لم يتركوها اختيارا ولا إيثارا منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النقلة عنها. {وكانَ اللّهُ عَفُوّا غَفُورا}: ولم يزل الله عفوّا، يعني ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده بتركه العقوبة عليها، غفورا ساترا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرا عنهم: {قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ}.
عن ابن عباس، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا، فاستغفروا لهم. فنزلت: {إنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ}... الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، وأنه لا عذر لهم. قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: {وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا باللّهِ فإذَا أُوذِيَ فِي اللّهِ} إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كلّ خير، ثم نزلت فيهم: {ثُمّ إن رَبّكَ للّذِينَ هاجَروا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمّ جاهَدُوا وَصَبُروا إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا. فخرجوا، فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقُتل من قتل.
{لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}: نهوضا إلى المدينة¹... الحيلة: المال. {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً}: طريقا إلى المدينة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
بين الله تعالى أهل العذر في ذلك حين قال: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}. قال ابن عباس رضي الله عنه: كنت أنا وأمي من المستضعفين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إن الذين أقعدتهم الأعذار عن الاختيار فعسى أن يتفضَّل الحقُّ -سبحانه- عليهم بالعفو.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
ثم استثنى من صدق في أنه مستضعف فقال {إلا المستضعفين} أي الذين يوجدون ضعفاء...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والحيلة: لفظ عام لأسباب أنواع التخلص،... و «السبيل»:... عام في جميع السبل...
ومن الولدان: عبد الله بن عباس وغيره...
وإنما ذكروا مع الرّجال والنساء وإنْ كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أنَّ عجزهم هو عجز لآبائهم الرّجال والنساء، لأنَّ من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة وكون الرّجال والنساء مشغولين بأطفالهم، مشغوفين بهم، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم. فذكر الولدان في المستثنين تنبيه على أعظم طرق العجز للرّجال والنساء، لأن طرق العجز لا تنحصر، فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف: {إلا المستضعفين} أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم {من الرجال والنساء والولدان} ثم بين ضعفهم بقوله: {لا يستطيعون حيلة} أي في إيقاع الهجرة {ولا يهتدون سبيلاً} إلى ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى: {إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان} دل الوعيد في الآية السابقة مع الاستثناء في هذه الآية على أن أولئك الذين اعتذروا عن عدم إقامة دينهم وعدم الفرار به هجرة إلى الله ورسوله غير صادقين في اعتذارهم فإن الاستضعاف الحقيقي عذر صحيح ولذلك استثنى أهله من الوعيد بهذه الآية، وقرن الرجال بالنساء والولدان فيها يشعر بأن المراد بالرجال الشيوخ الضعفاء والعجزة الذين هم كمن ذكر معهم {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا} أي قد ضاقت بهم الحيل كلها فلم يستطيعوا ركوب واحدة منها، وعميت عليهم الطرق جميعها فلم يهتدوا طريقا منها، إما للزمانة والمرض، وإما للفقر والجهل بمسالك الأرض وأخراتها ومضايقها، قال بعض المفسرين "بحيث لو خرجوا هلكوا "أي بركوب التعاسيف أو قلة الزاد أو عدم الراحلة. وفسر بعضهم الولدان هنا بالعبيد والإماء، وقال بعضهم بل هم الأولاد الصغار الذين لا يستطيعون ضربا في الأرض وروي عن ابن عباس أنه قال ":كنت أنا وأمي من المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون إلى الهجرة سبيلا، "واستشكل بأن الأولاد غير مكلفين فلا يتناولهم الوعيد فيحتاج إلى استثنائهم، وأجاب في الكشاف بأنه" يجوز أن يكون المراد المراهقين منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء فيلحقوا بهم في التكليف".
أقول ويجوز أن يكونوا قد ذكروا تبعا لوالديهم، لأنهم يكلفون أن يهاجروا بهم، فإذا كان الوالدان عاجزين عن السير مع الوالدين والولدان عاجزين عن حملهم كان من عذرهما أن يتركا الهجرة ما داما عاجزين ولا يكلفان ترك أولادهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان؛ متجاوزا تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين، وفي بيئة معينة.. يمضي حكما عاما؛ يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض؛ وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته؛ أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها. متى كان هناك -في الأرض في أي مكان- دار للإسلام؛ يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها عباداته؛ ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله، ويستمتع بهذا المستوى الرفيع من الحياة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتبيين بقوله: {من الرجال والنساء والولدان} لقصد التعميم. والمقصد التنبيه على أنّ من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأنّ وجودهم في العائلة يكون عذراً لوليّهم إذا كان لا يجد حيلة. وتقدّم ذكرهم بقوله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان} [النساء: 75]، وإعادة ذكرهم هنا ممّا يؤكّد أن تكون الآيات كلّها نزلت في التهيئة لفتح مكة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا استثناء من المصير الذي سيئول إليه هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وهؤلاء هم ضعفاء حقا، فقد استضعفهم الأعداء وأرهقوهم، ولم تكن عندهم قوة تمكنهم من الإفلات من بقائهم في أرضهم وخروجهم إلى أرض الإسلام
أولهم: ضعفاء الرجال من الشيوخ الفانين، والمرضى وذوي العاهات، ونحوهم، ومن هؤلاء من كان لا يرضى بالذلة ولو فنى بالطريق! ويروى أنه لما نزلت هذه الآية بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسلمي مكة، فقال ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، والله لا أبيت ليلة بمكة!. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا فمات في الطريق!.
والصنف الثاني: النساء اللائي لا يستطعن الخروج، إما لثقلهن بالأولاد، وإما لخشية أمن الطريق، وإما لعدم وجود زوج يصحبها، ولا ذي رحم محرم يكون معها في الطريق.
والصنف الأخير: الولدان، وقد قال بعض المفسرين: إنهم العبيد ونحوهم، وذلك القول ليس بشيء، والأصح أنهم الصبيان، ويقول الزمخشري: إنهم الذين تجاوزوا الحلم قريبا. ويصح أن يكون المراد هؤلاء والأولاد الذين يتبعون آباءهم، أو الذين ليس لهم آباء يتبعونهم، وهم بهذا الضعف غير مسئولين، واستثناؤهم لعدم تكليفهم أو لأنهم لا قوة لهم على تفسير الزمخشري؛ إذ إن ضعف الصبا لا يزال بهم، إذا كانوا قد بلغوا الحلم، ولم يدخلوا في دور الرجولة.
وقد ذكر سبحانه الوصف الذي استوجب استثناءهم، فقال سبحانه: {لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}، والحيلة المراد بها التحول من حالهم التي هم عليها إلى غيرها أي لا يستطيعون تحولا ولا انتقالا لعجزهم المطلق بمرض أو زمانة أو شيخوخة، أو يستطيعون التحول، ولكن لا يهتدون إلى الطريق الموصل كالصبيان القريبي العهد بالبلوغ، بحيث لو خرجوا هلكوا.
وهذه دقة في الأداء القرآني، فالإنسان مكلف بالخروج عن ظلم غيره له ولو بالاحتيال، والاحتيال هو إعمال الفكر إعمالا يعطي للإنسان فرصة أكثر مما هو متاح له بالفعل. فقد تكون القوة ضعيفة. ولكن بالاحتيال قد يوسع الإنسان من فرص القوة. ومثال ذلك: الإنسان حين يريد أن يحمل صخرة، وقد لا يستطيع ذلك بيديه، لكنه أن يأتي بقضيب من الحديد ويصنع منه عتلة ويضع تحت العتلة عجلة، ليدحرج الصخرة، هذه هي حيلة من الحيل، وكذلك السقالات التي نبني عليها، إنها حيلة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
مناسبة النزول جاء في مجمع البيان: قيل: لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من المسلمين وهو جندع أو جندب بن ضمرة وكان بمكة فقال: والله ما أنا مما استثنى الله، إني لأجد قوّةً وإني لعالم بالطريق، وكان مريضاً شديد المرض، فقال لبنيه: والله لا أبيت بمكة حتى أخرج منها، فإني أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} مراعاةً لظروفهم الصعبة، وربما كان التعبير بكلمة {عَسَى} التي لا توحي بالجزم، ليظل الإنسان في حالة استنفارٍ دائمٍ لقدراته وإمكاناته، فلا يسترخي أمام حالة العجز بشكل سريع. {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} فقد سبقت رحمته غضبه، في ما ينحرف به الناس عن الخط نتيجة هفوة أو ضعف أو عجز... فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وهو خير الغافرين. ولا بد لنا من إيضاح ما أشرنا إليه ضمن حديثنا هذا، وهو أن الاستضعاف قد يكون في العقيدة؛ وذلك في الحالات التي لا يملك فيها الإنسان وسائل المعرفة للانفتاح على ما هناك من أفكار وأديان وشرائع، وقد يكون الاستضعاف في العمل والسلوك، وذلك في المجالات التي تكون فيها إرادته مسحوقة تحت ضغط إرادة أخرى قاهرة؛ وفي كلا الحالين يتحدد العذر بإمكانات التخلّص من الطوق المضروب حول الإنسان بالهجرة إلى أماكن أخرى، أو بالانتظار إلى وقت آخر، أو بغير ذلك من الوسائل العملية للخروج من المأزق، فمع توفرها لا عذر للإنسان بالبقاء في حالة الضعف، أما مع عدم توفرها، فإن الله هو العفو الغفور...