ثم تأخير صورة هذه العاقبة الخاسرة في الآية التالية : ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) . . كل هذا لإطالة المشهد وتفصيل خطواته ومراحله . وهي طريقة من طرق الأسلوب القرآني في تعميق الأثر في الحس وإطالة مكثه في الأعصاب .
ونقف لحظة أمام هذا التحذير فنرى أن الله أخذ القرى واحدة بعد واحدة كلما عتت عن أمر ربها ورسله . . ونجد أن هذا التحذير يساق هنا بمناسبة الطلاق وأحكامه ، فيرتبط الطلاق وحكمه بهذه السنة الكلية . ويوحي هذا الارتباط أن أمر الطلاق ليس أمر أسر أو أزواج . إنما هو أمر الأمة المسلمة كلها . فهي المسؤولة عن هذا الأمر . وهي المسؤولة فيه عن شريعة الله . ومخالفتها عن أمر الله فيه - أو مخالفتها عن أمر الله في غيره من أحكام هذا النظام ، أو هذا المنهج الإلهي المتكامل للحياة - هي عتو عن أمر الله ، لا يؤاخذ به الأفراد الذين يرتكبونه ، إنما تؤاخذ به القرية أو الأمة التي تقع فيها المخالفة ، والتي تنحرف في تنظيم حياتها عن نهج الله وأمره . فقد جاء هذا الدين ليطاع ، ولينفذ كله ، وليهيمن على الحياة كلها . فمن عتا عن أمر الله فيه - ولو كان هذا في أحوال الأفراد الشخصية - فقد تعرض لما تعرضت له القرى من سنة الله التي لا تتخلف أبدا .
وتلك القرى ذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . . ذاقته في هذه الأرض قبل يوم الحساب الأخير . ولقد ذاقت هذا الوبال قرى وأمم وشعوب عتت عن منهج الله في الأرض . ونحن نشهد وأسلافنا شهدوا هذا الوبال . ذاقته فسادا وانحلالا ، وفقرا وقحطا ، وظلما وجورا ، وحياة مفزعة لا أمن فيها ولا سلام ، ولا طمأنينة فيها ولا استقرار . وفي كل يوم نرى مصداق هذا النذير !
وذلك فوق العذاب الشديد الذي ينتظر العتاة عن أمر الله ونهجه في الحياة حيث يقول الله : ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) . . والله أصدق القائلين .
إن هذا الدين منهج نظام جماعي - كما أسلفنا الحديث في سورة الصف - جاء لينشىء جماعة مسلمة ذات نظام خاص . وجاء ليصرف حياة هذه الجماعة كلها . ومن ثم فالجماعة كلها مسؤولة عنه ، مسؤولة عن أحكامه . ولن تخالف عن هذه الأحكام حتى يحق عليها هذا النذير الذي حق على القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله .
وفي مواجهة هذا الإنذار ومشاهده الطويلة يهتف بأولي الألباب الذين آمنوا . الذين هدتهم ألبابهم إلى الإيمان . يهتف بهم ليتقوا الله الذي أنزل لهم الذكر : ( قد أنزل الله إليكم ذكرا ) . .
{ قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا } الذكر هنا هو : القرآن والرسول هو : محمد صلى الله عليه وسلم وإعراب رسولا مفعول بفعل مضمر تقديره أرسل رسولا وهذا الذي اختاره ابن عطية وهو أظهر الأقوال وقيل : إن الذكر والرسول معا يراد بهما القرآن والرسول على هذا بمعنى الرسالة وقيل : إنهما يراد بهما القرآن على حذف مضاف تقديره ذكرا ذا رسول وقيل : رسولا مفعول بالمصدر الذي هو الذكر وقال الزمخشري : الرسول هو جبريل بدل من الذكر لأنه نزل به أو سمي ذكرا لكثرة ذكره لله وهذا كله بعيد .
ثم فسر {[66163]}الخسر أو{[66164]} استأنف الجواب لمن يقول : هل لها غير هذا في هذه الدار ، بقوله : { أعد الله } أي الملك الأعظم { لهم{[66165]} } بعد الموت{[66166]} وبعد البعث { عذاباً شديداً } .
ولما تمت الأحكام ودلائلها ، وأحكمت الآيات وفواصلها ، والتهديدات وغوائلها ، كانت فذلكتها وثمرة سياقها وموعظتها ما تسبب عن ذلك من قوله تعالى تنبيهاً على ما يحيي الحياة الطيبة وينجي في الدارين : { فاتقوا الله } أي الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
ولما كان في تخليص{[66167]} المواعظ من الأحكام واستثمارها من فواصل {[66168]}هذا الكلام أمر{[66169]} عظيم هو من الرقة بمكان لا يبصره إلا ذوو الأفهام قال تعالى : { يا أولي الألباب{[66170]} * } أي العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن { الذين آمنوا } أي خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة ، ثم علل هذا الأمر بما أزال العذر فقال تنبيهاً على ما من علينا به من المراسلة فإن مراسلات الأكابر فخر فكيف بمراسلات الملوك فكيف بمراسلة ملك الملوك حثاً بذلك على شكره : { قد أنزل الله } أي الذي له صفات الكمال { إليكم }{[66171]} خاصة { ذكراً * } أي كاملاً مذكوراً فيه غاية الشرف لكل من يقبله بل تشرفت الأرض كلها بنزوله ورفع عنها العذاب وعمها النور والصواب لأن فيه تبيان {[66172]}كل شيء{[66173]} ، فمن استضاء بنوره اهتدى ، ومن لجأ إلى برد أفنائه وصل من داء{[66174]} الجهل إلى شفائه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.