في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{رَبِّ مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ} (48)

10

ولو كان ما جاء به موسي سحرا ، لبقيت حبالهم وعصيهم بعد أن خيل لهم وللناس أن حية موسى ابتلعتها . ولكنهم ينظرون فلا يجدونها فعلا !

عندئذ لا يملكون أنفسهم من الإذعان للحق الواضح الذي لا يقبل جدلا . وهم أعرف الناس بأنه الحق :

( فألقي السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون ) . .

وهم قد كانوا منذ لحظة مأجورين ينتظرون الجزاء من فرعون على مهارتهم ، ولم يكونوا أصحاب عقيدة ولا قضية . ولكن الحق الذي مس قلوبهم قد حولهم تحويلا . لقد كانت هزة رجتهم رجا ، وخضتهم خضا ؛ ووصلت إلى أعماق نفوسهم وقرارة قلوبهم ، فأزالت عنها ركام الضلال ، وجعلتها صافية حيه خاشعة للحق ، عامرة بالإيمان ، في لحظات قصار . فإذا هم يجدون أنفسهم ملقين سجدا ، بغير إرادة منهم ، تتحرك ألسنتهم ، فتنطلق بكلمة الإيمان ، في نصاعة وبيان : ( آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون ) .

وإن القلب البشري لعجيب غاية العجب ، فإن لمسة واحدة تصادف مكانها لتبدله تبديلا . وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما من قلب إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن . إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه " . وهكذا انقلب السحرة المأجورون ، مؤمنين من خيار المؤمنين . على مرأى ومسمع من الجماهير الحاشدة ومن فرعون وملئه . لا يفكرون فيما يعقب جهرهم بالإيمان في وجه الطاغية من عواقب ونتائج ، ولايعنيهم ماذا يفعل أو ماذا يقول .

ولا بد أن كان لهذا الانقلاب المفاجىء وقع الصاعقة على فرعون وملئه . فالجماهير حاشدة . وقد عبأهم عملاء فرعون وهم يحشدونهم لشهود المباراة . عبأوهم بأكذوبة أن موسى الإسرائيلي ، ساحر يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره ، ويريد أن يجعل الحكم لقومه ؛ وأن السحرة سيغلبونه ويفحمونه . . ثم ها هم أولاء يرون السحرة يلقون ما يلقون باسم فرعون وعزته . ثم يغلبون حتى ليقرون بالغلب ؛ ويعترفون بصدق موسى في رسالته من عند الله ، ويؤمنون برب العالمين الذي أرسله ، ويخلعون عنهم عبادة فرعون ، وهم كانوا منذ لحظة جنوده الذين جاءوا لخدمته ، وانتظروا أجره ، واستفتحوا بعزته !

وإنه لانقلاب يتهدد عرش فرعون ، إذ يتهدد الأسطورة الدينية التي يقوم عليها هذا العرش . أسطورة الألوهية ، أو بنوته للآلهة - كما كان شائعا في بعض العصور - وهؤلاء هم السحرة . والسحر كان حرفة مقدسة لا يزاولها إلا كهنة المعابد في طول البلاد وعرضها . ها هم أولاء يؤمنون برب العالمين ، رب موسى وهارون ، والجماهير تسير وراء الكهنة في معتقداتهم التي يلهونهم بها . فماذا يبقى لعرش فرعون من سند إلا القوة ? والقوة وحدها بدون عقيدة لا تقيم عرشا ولا تحمي حكما .

إن لنا أن نقدر ذعر فرعون لهذه المفاجأة ، وذعر الملأ من حوله ، إذا نحن تصورنا هذه الحقيقة ؛ وهي إيمان السحرة الكهنة هذا الإيمان الصريح الواضح القاهر الذي لا يملكون معه إلا أن يلقوا سجدا معترفين منيبين .