في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤۡمِنُونَ} (52)

44

وحين تنتهي هذه الجولة ، فيتبين منها التواؤهم ومراؤهم ، يأخذ معهم في جولة أخرى تعرض عليهم صورة من استقامة الطبع وخلوص النية . تتجلى هذه الصورة في فريق من الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ، وطريقة استقبالهم للقرآن المصدق لما بين أيديهم :

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ؛ وإذا يتلى عليهم قالوا : آمنا به ، إنه الحق من ربنا ، إنا كنا من قبله مسلمين . أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ، ويدرأون بالحسنة السيئة ، ومما رزقناهم ينفقون ؛ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ، وقالوا : لنا أعمالنا ، ولكم أعمالكم ، سلام عليكم ، لا نبتغي الجاهلين . .

قال سعيد بن جبير - رضي الله عنه - نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فلما قدموا على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قرأ عليهم : " ( يس والقرآن الحكيم )حتى ختمها ، فجعلوا يبكون وأسلموا ؛ ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . . . إلخ " . . .

وروى محمد بن إسحاق في السيرة : " ثم قدم على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه ، وسألوه ، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى ، وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام ، في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ? ما نعلم ركبا أحمق منكم ! فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا " .

قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران . فالله أعلم أي ذلك كان . قال : ويقال والله أعلم : إن فيهم نزلت هذه الآيات : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . . . إلخ .

قال : وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت ? قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه - رضي الله عنه - والآيات اللاتي في سورة المائدة : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا . . . إلى قوله - فاكتبنا مع الشاهدين .

وأيا من كان الذين نزلت في أمرهم هذه الآيات ، فالقرآن يرد المشركين إلى حادث وقع ، يعلمونه ولا ينكرونه . كي يقفهم وجها لوجه أمام نموذج من النفوس الخالصة كيف تتلقى هذا القرآن ، وتطمئن إليه ، وترى فيه الحق ، وتعلم مطابقته لما بين أيديها من الكتاب . ولا يصدها عنه صاد من هوى ولا من كبرياء ؛ وتحتمل في سبيل الحق الذي آمنت به ما يصيبها من أذى وتطاول من الجهلاء ، وتصبر على الحق في وجه الأهواء ووجه الإيذاء .

( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) . .

وهذه إحدى الآيات على صحته ، فالكتاب كله من عند الله ، فهو متطابق ، ومن أوتي أوله عرف الحق في آخره ، فاطمأن له ، وآمن به ، وعلم أنه من عند الله الذي نزل الكتاب كله .