الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِهِۦ هُم بِهِۦ يُؤۡمِنُونَ} (52)

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال : خرج عشرة رهط من أهل الكتاب - منهم أبو رفاعة - إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا ، فأوذوا ، فنزلت { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } .

وأخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن علي بن رفاعة رضي الله عنه قال : كان أبي من الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، وكانوا عشرة ، فلما جاؤوا جعل الناس يستهزئون بهم ، ويضحكون منهم ، فأنزل الله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } .

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد رضي الله عنه { الذين آتيناهم الكتاب } إلى قوله { لا نبتغي الجاهلين } قال : في مسلمة أهل الكتاب .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } قال : كنا نحدث أنها أنزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق يأخذون بها ، وينتهون إليها ، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وصبرهم على ذلك قال : وذكر لنا أن منهم سلمان ، وعبد الله بن سلام .

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } قال : يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب .

وأخرج ابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : تداولتني الموالي حتى وقعت بيثرب ، فلما يكن في الأرض قوم أحب إلي من النصارى ، ولا دين أحب إلي من النصرانية ، لما رأيت من اجتهادهم ، فبينا أنا كذلك إذ قالوا : قد بعث في العرب نبي ، ثم قالوا : قدم المدينة فأتيته فجعلت أسأله عن النصارى قال : لا خير في النصارى ، ولا أحب النصارى قال : فأخبرته أن صاحبي قال : لو أدركته فأمرني أن أقع النار لوقعتها قال : وكنت قد استهترت بحب النصارى ، فحدثت نفسي بالهرب ، وقد جرد رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف ، فأتاني آتٍ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقلت : اذهب حتى أجيء وأنا أحدث نفسي بالهرب قال لي : لن أفارقك حتى أذهب بك إليه ، فانطلقت به فلما رآني قال : يا سلمان قد أنزل الله عذرك { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } .

وأخرج الطبراني والخطيب في تاريخه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : أنا رجل من أهل رام هرمز ، كنا قوماً مجوساً ، فأتانا رجل نصراني من أهل الجزيرة ، فنزل فينا واتخذ فينا ديراً ، وكنت في كتاب في الفارسية ، وكان لا يزال غلام معي في الكتاب يجيء مضروباً يبكي قد ضربه أبواه .

فقلت له يوماً : ما يبكيك ؟ قال : يضربني أبواي قلت : ولم يضربانك ؟ قال : آتي صاحب هذا الدير ، فإذا علما ذلك ضرباني ، وأنت لو أتيته سمعت منه حديثاً عجيباً قلت : فاذهب بي معك ، فاتيناه فحدثنا عن بدء الخلق ، وعن بدء مغلق السموات والأرض ، وعن الجنة والنار . فحدثنا بأحاديث عجب ، وكنت أختلف إليه معه ، ففطن لنا غلمان من الكتاب ، فجعلوا يجيئون معنا .

فلما رأى ذلك أهل القرية أتوه فقالوا : يا هذا إنك قد جاورتنا فلم نر من جوارك إلا الحسن ، وإننا لنا غلماننا يختلفون إليك ، ونحن نخاف أن تفسدهم علينا ، أخرج عنا قال : نعم . فقال لذلك الغلام الذي كان يأتيه : اخرج معي . قال : لا أستطيع ذلك قد علمت شدة أبوي علي قلت : لكنني أخرج معك ، وكنت يتيماً لا أب لي ، فخرجت معه فأخذنا جبل رام هرمز ، فجعلنا نمشي ونتوكل ونأكل من ثمر الشجر حتى قدمنا الجزيرة ، فقدمنا نصيبين فقال لي صاحبي : يا سلمان إن ههنا قوماً عباد الأرض ، وأنا أحب أن ألقاهم .

فجئنا إليهم يوم الأحد وقد اجتمعوا ، فسلم عليهم صاحبي فحيوه وبشوا به وقالوا : أين كان غيبتك ؟ قال : كنت في إخوان لي من قبل فارس ، فتحدثنا ما تحدثنا ثم قال لي صاحبي : قم يا سلمان انطلق قلت : لا ، دعني مع هؤلاء قال : إنك لا تطيق ما يطيق هؤلاء ، يصومون الأحد إلى الأحد ، ولا ينامون هذا الليل ، فإذا فيهم رجل من أبناء الملوك ترك الْمُلْكَ ودخل في العبادة ، فكنت فيهم حتى أمسينا ، فجعلوا يذهبون واحداً واحداً إلى غاره الذي يكون فيه ، فلما أمسينا قال : ذاك الذي من أبناء الملوك هذا الغلام ما تصنعونه ؟ ليأخذه رجل منكم فقالوا : خذه أنت .

فقال لي : قم يا سلمان فذهب بي حتى أتى غاره الذي يكون فيه فقال لي : يا سلمان هذا خبز ، وهذا أدم ، فكل إذ غرثت ، وصم إذا نشطت ، وصَلِ ما بدا لك ، ونم إذا كسلت ، ثم قام في صلاته فلم يكلمني ولم ينظر إلي ، فأخذني الغم تلك السبعة الأيام لا يكلمني أحد ، حتى كان الأحد فانصرف إلي ، فذهبت إلى مكانهم الذي كانوا يجتمعون ، وهم يجتمعون كل أحد يفطرون فيه ، فيلقى بعضهم بعضاً ، فيسلم بعضهم على بعض ، ثم لا يلتقون إلى مثله .

فرجعت إلى منزلنا فقال لي : مثل ما قال لي أول مرة : هذا خبز وهذا أدم فكل منه إذا غرثت ، وصم إذا نشطت ، وصلِّ ما بدا لك ، ونم إذا كسلت ، ثم دخل في صلاته فلم يلتفت إلي ولم يكلمني إلى الأحد الآخر ، فأخذني غم ، وحدثت نفسي بالفرار ، فقلت : اصبر أحدين أو ثلاثة ، فلما كان الأحد رجعنا إليهم ، فافطروا واجتمعوا فقال لهم : إني أريد بيت المقدس . فقالوا له : وما تريد إلى ذاك ؟ قال : لا عهد به قالوا : إنا نخاف أن يحدث بك حدث فيليك غيرنا ، وكنا نحب أن نليك قال : لا عهد به .

فلما سمعته يذكر ذاك فرحت قلت : نسافر ونلقى الناس فيذهب عني الغم الذي كنت أجد ، فخرجت أنا وهو وكان يصوم من الأحد إلى الأحد ، ويصلي الليل كله ، ويمشي بالنهار ، فإذا نزلنا قام يصلي . فلم يزل ذاك دأبه حتى نزلنا بيت المقدس ، وعلى الباب رجل مقعد يسأل الناس فقال : اعطني . فقال : ما معي شيء ، فدخلنا بيت المقدس ، فلما رآه أهل بيت المقدس بشوا به واستبشروا به فقال لهم : غلامي هذا فاستوصوا به ، فانطلقوا بي فأطعموني خبزاً ولحماً ، ودخل في الصلاة فلم ينصرف إلي حتى كان يوم الأحد الآخر ، ثم انصرف فقال لي : يا سلمان إني أريد أن أضع رأسي ، فإذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني . فبلغ الظل الذي قال فلم أوقظه رحمة له مما رأيت من اجتهاده ونصبه ، فاستيقظ مذعوراً فقال : يا سلمان ألم أكن قلت لك إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني ؟ قلت : بلى . ولكن إنما منعني رحمة لك لما رأيت من دأبك قال : ويحك يا سلمان . . ! إني أكره أن يفوتني شيء من الدهر لم أعمل فيه لله خيراً .

ثم قال لي : يا سلمان اعلم أن أفضل ديننا اليوم النصرانية . قلت : ويكون بعد اليوم دين أفضل من النصرانية ؟ كلمة ألقيت على لساني . قال : نعم . يوشك أن يبعث نبي يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، فإذا أدركته فاتبعه وصدقه قلت : وإن أمرني أن أدع النصرانية ؟ قال : نعم . فإنه نبي الله لا يأمر إلا بالحق ، ولا يقول إلا حقاً ، والله لو أدركته ثم أمرني أن أقع في النار لوقعتها .

ثم خرجنا من بيت المقدس ، فمررنا على ذلك المقعد فقال له : دخلت فلم تعطني وهذا تخرج فاعطني . فالتفت فلم ير حوله أحداً قال : فاعطني يدك ، فأخذ بيده فقال : قم بإذن الله . فقام صحيحاً سوياً ، فتوجه نحو أهله ، فاتبعته بصري تعجباً مما رأيت ، وخرج صاحبي فأسرع المشي ، وتبعته فتلقاني رفقة من كلب أعراب ، فسبوني فحملوني على بعير ، وشدوني وثاقاً فتداولني البياع حتى سقطت إلى المدينة ، فاشتراني رجل من الأنصار ، فجعلني في حائط له من نخل ، فكنت فيه ومن ثم تعلمت الخوص ، أشتري خوصاً بدرهم فاعلمه فأبيعه بدرهمين ، فأرد درهماً إلى الخوص واستنفق درهماً أحب أن آكل من عمل يدي ، فبلغنا ونحن بالمدينة أن رجلاً خرج بمكة يزعم أن الله أرسله ، فمكثنا ما شاء الله أن نمكث ، فهاجر إلينا وقدم علينا فقلت : والله لأجربنه فذهبت إلى السوق ، فاشتريت لحم جزور ثم طحنته ، فجعلت قصعة من ثريد ، فاحتملتها حتى أتيته بها على عاتقي حتى وضعتها بين يديه فقال : ما هذه . . أصدقة أم هدية ؟قلت : بل صدقة فقال لأصحابه : كلوا بسم الله . وأمسك ولم يأكل ، فمكثت أيام ، ثم اشتريت لحماً أيضاً بدرهم ، فاصنع مثلها فاحتملتها حتى أتيته بها ، فوضعتها بين يديه فقال : ما هذه . . . صدقة أم هدية ؟ فقلت : بل هدية . فقال لأصحابه : كلوا بسم الله وأكل معهم . قلت : هذا - والله - يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، فرأيت بين كتفيه خاتم النبوّة مثل بيضة الحمامة ، فأسلمت .

فقلت له ذات يوم : يا رسول الله أي قوم النصارى ؟ قال : لا خير فيهم ولا فيمن يحبهم قلت في نفسي : أنا - والله - أحبهم . قال : وذاك حين بعث السرايا وجرد السيف . فسرية تخرج وسرية تدخل والسيف يقطر قلت : يحدث بي الآن أني أحبهم ، فيبعث إلي فيضرب عنقي ، فقعدت في البيت فجاءني الرسول ذات يوم فقال : يا سلمان أجب رسول الله قلت : هذا - والله - الذي كنت أحذر قلت : نعم . اذهب حتى ألحقك قال : لا والله حتى تجيء ، وأنا أحدث نفسي أن لو ذهب فأفر .

فانطلق بي حتى انتهيت إليه ، فلما رآني تبسم وقال لي : يا سلمان ابشر فقد فرج الله عنك ، ثم تلا على هؤلاء الآيات { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } إلى قوله { لا نبتغي الجاهلين } قلت : يا رسول الله - والذي بعثك بالحق - سمعته يقول : لو أدركته فأمرني أن أقع في النار لوقعتها ، إنه نبي لا يقول إلا حقاً ، ولا يأمر إلا بالحق » .

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون } قال : نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم أحب أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعظمته في اليهود ، ومنزلته فيهم ، وقد ستر بينه وبينهم ستراً فكلمهم ودعاهم فأبوا فقال : أخبروني عن عبد الله بن سلام كيف هو فيكم ؟ قالوا : ذاك سيدنا وأعلمنا قال : أرأيتم إن آمن بي وصدقني أتؤمنون بي وتصدقوني ؟ قالوا : لا يفعل ذاك . هو أفقه فينا من أن يدع دينه ويتبعك ، قال أرأيتم إن فعل ؟ قالوا : لا يفعل قال : أرأيتم إن فعل ؟ قالوا إذاً نفعل . . قال : أخرج يا عبد الله بن سلام فخرج فقال : أبسط يدك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فبايعه ، فوقعوا به وشتموه وقالوا : والله ما فينا أحد أقل علماً منه ، ولا أجهل بكتاب الله منه قال : ألم تثنوا عليه آنفاً ؟ قالوا : إنا استحينا أن تقول اغتبتم صاحبكم من خلفه . فجعلوه يشتمونه فقام إليه أمين بن يامين فقال : أشهد أن عبد الله بن سلام صادق ، فابسط يدك فبايعه ، فأنزل الله فيهم { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } يعني إبراهيم واسمعيل وموسى وعيسى وتلك الأمم وكانوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم » .