ذكر الله عز وجل مقالة فرعون حين أعيته الحيل في مقاومة موسى عليه السلام بحجة ، وظهر لجميع المشاهدين أن ما يدعو إليه موسى من عبادة إله السماء حق ، فنادى فرعون هامان وهو زيره والناظر في أموره ، فأمره أن يبني له بناء عالياً نحو السماء . و «الصرح » كل بناء عظيم شنيع القدر ، مأخوذ من الظهور والصراحة ، ومنه قولهم : صريح النسب ، وصرح بقوله ، فيورى أن هامان طبخ الآجر لهذا الصرح ولم يطبخ قبله ، وبناه ارتفاع مائة ذراع فعبث الله جبريل فمسحه بجناحه فكسره ثلاث كسر ، تفرقت اثنتان ووقعت ثالثة في البحر . وروي أن هامان لم يكن من القبط ، وقيل : كان منهم .
هذه مقالة أخرى لفرعون في مجلس آخر غير المجلس الذي حاجّه فيه موسى ولذلك عطف قوله بالواو كما أشرنا إليه فيما عطف من الأقوال السابقة آنفاً ، وكما أشرنا إليه في سورة القصص ، وتقدم الكلام هنالك مستوفى على نظير معنى هذه الآية على حسب ظاهرها ، وتقدم ذكر ( هامان ) والصرح هنالك .
وقد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة ، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال : { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } [ طه : 48 ] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم ، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل . وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم ، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته ، لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى : { فخرج على قومه من المحراب } [ مريم : 11 ] وقوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب } [ آل عمران : 37 ] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد ، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم .
والأسباب : جمع سبب ، والسبب ما يوصِّل إلى مكان بعيد ، فيطلق السبب على الطريق ، ويطلق على الحبل لأنهم كانوا يتوصلون به إلى أعلى النخيل . والمراد هنا : طرق السماوات ، كما في قول زهير :
ومن هَاب أسبابَ المنايا يَنَلْنَه *** وإن يَرْقَ أسبابَ السماء بسلّم
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لما وعظه المؤمن من آله بما وعظه به وزجره عن قتل موسى نبيّ الله وحذره من بأس الله على قيله أقتله ما حذره لوزيره وزير السوء هامان:"يا هامانُ ابْنِ لي صَرْحا لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ" يعني بناءً...
"لَعَلّي أبْلُغُ الأسْبابَ "اختلف أهل التأويل في معنى الأسباب في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: "أسباب السموات": طرقها...
وقال آخرون: عُني بأسباب السموات: أبواب السموات...
وقال آخرون: بل عُني به مَنْزِل السماء...
وقد بيّنا فيما مضى قبل، أن السبب: هو كلّ ما تُسَبّبَ به إلى الوصول إلى ما يطلب من حبل وسلم وطريق وغير ذلك.
فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: معناه لعلي أبلغ من أسباب السموات أسبابا أتسبب بها إلى رؤية إله موسى، طرقا كانت تلك الأسباب منها، أو أبوابا، أو منازل، أو غير ذلك...
وقوله: "وَإني لأَظُنّهُ كاذِبا" يقول: وإني لأظنّ موسى كاذبا فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء ربا أرسله إلينا.
وقوله: "وكَذَلكَ زُيّنَ لِفَرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ" يقول الله تعالى ذكره: وهكذا زين الله لفرعون حين عتا عليه وتمردّ، قبيح عمله، حتى سوّلت له نفسه بلوغ أسباب السموات، ليطلع إلى إله موسى...
وقوله: "وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلاّ في تَبابٍ" يقول تعالى ذكره: وما احتيال فرعون الذي يحتال للاطلاع إلى إله موسى، إلا في خسار وذهاب مال وغبن، لأنه ذهبت نفقته التي أنفقها على الصرح باطلاً، ولم ينل بما أنفق شيئا مما أراده، فذلك هو الخسار والتباب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} تمويه منه على قومه بموسى. يقول: إن موسى إنما يدعو إلى إله في السماء، فهو نحو إله يكون في الأرض، ويحتمل أن فرعون قال ذلك لما رأى أن البركات والخيرات تنزل من السماء، فظن أنه في السماء...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَقَالَ فَرْعَوْنُ يهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} الصرح البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بُعد، وأصله من التصريح وهو الإظهار...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل: لعلي أبلغ أسباب السموات لأجزأ؟ قلت إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه، فلما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثم أوضحها؛ ولأنه لما كان بلوغها أمراً عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه، ليعطيه السامع حقه من التعجب، فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان، ثم أوضحه...
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبرا جبارا بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السموات...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلام هذا المؤمن في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فإن بان له صوابه لم يخفه عنهم، وإن لم يصح ثبتهم على دينهم؛ فأمر وزيره هامان ببناء الصرح...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أقوال فرعون:"ذروني أقتل موسى..."، "ما أريكم إلا ما أرى..."، "يا هامان ابن لي صرحاً... "حيدة عن محاجة موسى، ورجوع إلى أشياء لا تصح، وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة، والتعرف أن هلاكه وهلاك قومه على يد موسى، وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى، هذا على كثرة سفكه الدماء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها؛ فقد ظل فرعون في ضلاله، مصراً على التنكر للحق. ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى. ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها. فاتخذ فرعون لنفسه مهرباً جديداً:
(وقال فرعون: يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب. أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى. وإني لأظنه كاذباً. وكذلك زين لفرعون سوء عمله، وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب)..
يا هامان ابن لي بناء عالياً لعلي أبلغ به أسباب السماوات،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد لاح لي هنا محمل آخر أقرب أن يكون المقصودَ من الآية، ينتظم مع ما ذكرناه هنالك في الغاية ويخالفه في الدلالة، وذلك أن يكون فرعون أمَر ببناء صرح لا لِقصد الارتقاء إلى السماوات بل ليخلُوَ بنفسه رياضة ليستمد الوحي من الربّ الذي ادعى موسى أنه أَوحَى إليه إذ قال: {إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} [طه: 48] فإن الارتياض في مكان منعزل عن الناس كان من شعار الاستيحاء الكهنوتي عندهم، وكان فرعون يحسب نفسه أهلاً لذلك؛ لزعمه أنه ابن الآلهة وحامي الكهنة والهياكل. وإنما كان يشغله تدبير أمر المملكة فكان يكِل شؤون الديانة إلى الكهنة في معابدهم، فأراد في هذه الأزمة الجدلية أن يتصدى لذلك بنفسه ليكون قوله الفصل في نفي وجود إله آخر تضليلاً لدهماء أمته؛ لأنه أراد التوطئة للإِخبار بنفي إله أخر غير آلهتهم فأراد أن يتولى وسائل النفي بنفسه كما كانت لليهود محاريب للخلوة للعبادة كما تقدم عند قوله تعالى: {فخرج على قومه من المحراب} [مريم: 11] ومن اتخاذ الرهبان النصارى صوامع في أعالي الجبال للخلوة للتعبد، ووجودها عند هذه الأمم يدل على أنها موجودة عند الأمم المعاصرة لهم والسابقة عليهم...