وقوله : { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : ما غرك بالرب الكريم { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها ، في أحسن الهيئات والأشكال .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا حَريزُ ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة ، عن جُبير ابن نُفَير ، عن بُسْر بن جحَاش القرشي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه ، فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : " قال اللَه عز وجل : ابن{[29812]} آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سَوّيتك وعدلتك ، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ ، فجَمَعت ومَنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدقُ ، وأنَّى أوانُ الصدقة " .
وكذا رواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حَريز بن عثمان ، به{[29813]} .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي : وتابعه يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن ميسرة{[29814]} .
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة .
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة : { فعَدَّلك في أيّ صورة } جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق ، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره .
وذكر عن صالح بن مسمار قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال : « غره جهله » ، ولم يذكر سنداً .
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق ، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله : { فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ] ولكن قُصد إظهار مراتب النعمة . وهذا من الإِطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عَليها بخصوصها ، ومن مقتضيات الإِطناب مقام التوبيخ .
والخَلق : الإِيجاد على مقدار مقصود .
والتسْوية : جعل الشيء سويّاً ، أي قويماً سليماً ، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإِدراك أو الإِحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه ، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم .
والتعديل : التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين ، والرجلين ، والعينين ، وصورة الوجه ، فلا تفاوت بين متزاوجها ، ولا بشاعة في مجموعها . وجعَلَه مستقيم القامة ، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب ، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما ، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي ، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحَلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين . وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع .
وخلق الله جسد الإِنسان مقسمةً أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين .
وفرع فعل « سواك » على { خلقك } وفِعل « عدَّلك » على « سوّاك » تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعاً حاصلاً في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 2 ، 3 ] .
وقرأ الجمهور : { فعدَّلك } بتشديد الدال . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال ، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل ، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الذي خلقك أيها الإنسان فسوّى خلقك فَعَدَلكَ. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة والشام والبصرة: «فَعَدّلكَ» بتشديد الدال، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة بتخفيفها، وكأن من قرأ ذلك بالتشديد، وجّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلاً معدّل الخلق مقوّما، وكأنّ الذين قرأوه بالتخفيف، وجّهوا معنى الكلام إلى صرفك وأمالك إلى أيّ صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته. وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرَأة الأمصار، صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجبهما إليّ أن أقرأ به، قراءة من قرأ ذلك بالتشديد، لأن دخول «في» للتعديل أحسن في العربية من دخولها للعدل، ألا ترى أنك تقول: عدّلتك في كذا، وصرفتك إليه، ولا تكاد تقول: عدلتك إلى كذا وصرفتك فيه، فلذلك اخترت التشديد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ففي هذا التعريف المنة ليستأدي منه الشكر، وفيه ذكر قوته وسلطانه حين قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر، ولا يجري عليها سلطانهم ليهابوه، ويحذروا مخالفته. وفيه ذكر حكمته وعلمه ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى، لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجه، لا يعرفه الخلق، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا، بل خلقهم ليأمرهم، وينهاهم، ويرسل إليهم الرسل، وينزل عليهم الكتب، فيلزمهم اتباعها، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها، وتركوا اتباعها. وسنذكر وجه التسوية به في قوله: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2] أنه سواه على ما توجبه الحكمة، أو سواه من وجه الدلالة على معرفة الصانع، أو سواه في ما خلق له من اليدين والرجلين والسمع والبصر. وقوله تعالى: {فعدَّلك} أي سواك، قال أبو عبيد: معنى قوله: {فعدَلك} بالتخفيف أي أمالك، وليس في ذكره كثير حكمة، وأختار التشديد فيه.
وليس كما ذكر، بل في ذكر هذا من الأعجوبة ما في ذكر الآية؛ فقوله: {فعدَلك} أي صرفك من حال إلى حال؛ ووجه صرفه، والله أعلم، أنه كان في الأصل ماء مهينا في صلب الأب، فصرف ذلك الماء إلى رحم الأم، ثم أنشأه نطفة، ثم صرفها إلى العلقة وإلى المضغة إلى إنشائه خلقا سويا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
أي قوّمك: وجعلك معتدل الخلق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فسواك} فجعلك سويا سالم الأعضاء {فَعَدَلَكَ} فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه...
أما قوله تعالى: {الذي خلقك} فاعلم أنه تعالى لما وصف نفسه بالكرم ذكر هذه الأمور الثلاثة كالدلالة على تحقق ذلك الكرم؛
(أولها): الخلق وهو قوله: {الذي خلقك} ولا شك أنه كرم وجود لأن الوجود خير من العدم...
(وثانيها): قوله: {فسواك} أي جعلك سويا سالم الأعضاء تسمع وتبصر...
قال ذو النون: سواك أي سخر لك المكونات أجمع، وما جعلك مسخرا لشيء منها، ثم أنطق لسانك بالذكر، وقلبك بالعقل، وروحك بالمعرفة، وسرك بالإيمان، وشرفك بالأمر والنهي وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلا.
.عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم، وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعدا لقبول العقل والقدرة والفكر، وصيرك بسبب ذلك مستوليا على جميع الحيوان والنبات، وواصلا بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم منبهة على أن من قدر على ذلك أولا قدر عليه ثانيا والتسوية جعل الأعضاء سليمة مسواة معدة لمنافعها والتعديل جعل البنية معدلة متناسبة الأعضاء أو معدلة بما تسعدها من القوى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة.
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة: {فعَدَّلك في أيّ صورة} جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره.
وذكر عن صالح بن مسمار قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال: « غره جهله»، ولم يذكر سنداً.
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله: {فسواهن سبع سماوات} [البقرة: 29] ولكن قُصد إظهار مراتب النعمة. وهذا من الإِطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عَليها بخصوصها، ومن مقتضيات الإِطناب مقام التوبيخ.
والخَلق: الإِيجاد على مقدار مقصود.
والتسْوية: جعل الشيء سويّاً، أي قويماً سليماً، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإِدراك أو الإِحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم.
والتعديل: التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين، وصورة الوجه، فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها. وجعَلَه مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحَلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين. وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع.
وخلق الله جسد الإِنسان مقسمةً أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين.
وفرع فعل « سواك» على {خلقك} وفِعل « عدَّلك» على « سوّاك» تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعاً حاصلاً في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} [الأعلى: 2، 3].
وقرأ الجمهور: {فعدَّلك} بتشديد الدال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع.