{ كَلَّا } أي : ليس كل من نعمته في الدنيا فهو كريم علي ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فهو مهان لدي ، وإنما الغنى والفقر ، والسعة والضيق ، ابتلاء من الله ، وامتحان يمتحن به العباد ، ليرى من يقوم له بالشكر والصبر ، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل ، ممن ليس كذلك فينقله إلى العذاب الوبيل .
وأيضًا ، فإن وقوف همة العبد عند مراد نفسه فقط ، من ضعف الهمة ، ولهذا لامهم الله على عدم اهتمامهم بأحوال الخلق المحتاجين ، فقال : { كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } الذي فقد أباه وكاسبه ، واحتاج إلى جبر خاطره والإحسان إليه .
فأنتم لا تكرمونه بل تهينونه ، وهذا يدل على عدم الرحمة في قلوبكم ، وعدم الرغبة في الخير .
قال الله : { كَلا } أي : ليس الأمر كما زعم ، لا في هذا ولا في هذا ، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين ، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك ، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر .
وقوله : { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } فيه أمر بالإكرام له ، كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله ابن المبارك ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن يحيى بن سليمان ، عن زيد بن أبي عتاب{[30053]} عن أبي هُريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " ثم قال بأصبعه : " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " {[30054]} .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا عبد العزيز - يعني ابن أبي حازم - حدثني أبي ، عن سهل - يعني ابن سعد - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " . وقرن{[30055]} بين إصبعيه : الوسطى والتي تلي الإبهام{[30056]} .
وقوله : كَلاّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : كَلاّ في هذا الموضع ، وما الذي أنكر بذلك ، فقال بعضهم : أنكر جلّ ثناؤه أن يكون سبب كرامته من أكرم كثرة ماله ، وسبب إهانته من أهان قلة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأمّا إذَا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيقُولُ رَبّي أهانني ما أسرع ما كفر ابن آدم يقول الله جلّ ثناؤه : كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا ، ولا أهين من أهنت بقلتها ، ولكن إنما أُكرم من أكرمت بطاعتي ، وأُهين من أهنت بمعصيتي .
وقال آخرون : بل أنكر جلّ ثناؤه حمد الإنسان ربه على نِعمه دون فقره ، وشكواه الفاقة . وقالوا : معنى الكلام : كلاّ ، أي لم يكن ينبغي أن يكون هكذا ، ولكن كان ينبغي أن يحمده على الأمرين جميعا ، على الغنى والفقر .
وأولى القولين في ذلك بالصواب : القول الذي ذكرناه عن قتادة ، لدلالة قوله بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ والاَيات التي بعدها ، على أنه إنما أهان من أهان بأنه لا يكرم اليتيم ، ولا يَحُضّ على طعام المسكين ، وسائر المعاني التي عدّد ، وفي إبانته عن السبب الذي من أجله أهان من أهان ، الدلالة الواضحة على سبب تكريمه من أكرم ، وفي تبيينه ذلك عَقيب قوله : فَأمّا الإنْسانُ إذَا ما ابْتَلاهُ رَبّهُ فَأكْرَمَهُ وَنَعّمَهُ فَيَقُولُ رَبّي أكْرَمَنِ وَأمّا إذَا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّي أهانَنِ بيان واضح عن الذي أنكر من قوله ما وصفنا .
وقوله : بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ يقول تعالى ذكره : بل إنما أهنت من أَهَنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم ، فأخرج الكلام على الخطاب ، فقال : بل لستم تكرمون اليتيم ، فلذلك أهنتكم وَلا تَحَاضّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه من أهل المدينة أبو جعفر وعامة قرّاء الكوفة بَلْ لا تُكْرِمونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضّونَ بالتاء أيضا وفتحها ، وإثبات الألف فيها ، بمعنى : ولا يحضّ بعضكم بعضا على طعام المسكين . وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء المدينة ، بالتاء وفتحها وحذف الألف : «وَلا تَحُضّونَ » بمعنى : ولا تأمرون بإطعام المسكين . وقرأ ذلك عامة قرّاء البصرة : «يَحُضّونَ » بالياء وحذف الألف ، بمعنى : ولا يكرم القائلون إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ربي أكرمني ، وإذا قدر عليه رزقه ربي أهانني اليتيم ، «وَلا يَحُضّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ » وكذلك يقرأ الذين ذكرنا من أهل البصرة «يُكْرِمُونَ » وسائر الحروف معها بالياء ، على وجه الخبر عن الذين ذكرت . وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ : «تُحاضّونَ » بالتاء وضمها وإثبات الألف ، بمعنى : ولا تحافظون .
والصواب من القول في ذلك عندي : أن هذه قراءات معروفات في قراءة الأمصار ، أعني القراءات الثلاث صحيحات المعاني ، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب .
ثم قال تعالى : { كلا } ردّاً على قولهم ومعتقدهم ، أي ليس إكرام الله تعالى وإهانته ، في ذلك ، وإنما ذلك ابتلاء فحق من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع ، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر ، وأما إكرام الله تعالى فهو بالتقوى ، وإهانته فبالمعصية ، ثم أخبرهم بأعمالهم من أنهم لا يكرمون اليتيم وهو من بني آدم الذي فقد أباه وكان غير بالغ . ومن البهائم ما فقد أمه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أحَبُّ البيوت إلى الله ، بيت فيه يتيم مكرم {[11801]} » .
{ بل } إضراب انتقالي . والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقللِ إليه مناسبةُ المقابَلةِ لمضمون { فأكرمه ونعمه } من جهة ما توهموه أن نعمة مالِهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم ، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يُكرموا عبيده شُحّاً بالنعمة إذ حَرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحْتاجُون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل .
فجملة : { لا تكرمون اليتيم } استئناف كما يقتضيه الإضراب ، فهو إمّا استئناف ابتداء كلام ، وإما اعتراض بين { كلاّ } وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم : سَد خَلته ، وحسن معاملته ، لأنه مظنة الحاجة لفقدِ عائِلِه ، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباءُ لأبنائهم الصغار . وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات .
والبِرّ ، لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يُدِلّ هو عليه .
و { اليتيم } : الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء ، وتعريفه للجنس ، أي لا تكرمون اليتامى . وكذلك تعريف { المسكين } .
و { كلاّ } ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإِنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسبباً على إرادة الله تكريم الإِنسان ولا على إرادته إهانته . وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبيينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله : { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] بعد قوله : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر : 13 ] .