فعرفوا أن الذي خاطبهم هو يوسف ، فقالوا : { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالإيمان والتقوى والتمكين في الدنيا ، وذلك بسبب الصبر والتقوى ، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } أي : يتقي فعل ما حرم الله ، ويصبر على الآلام والمصائب ، وعلى الأوامر بامتثالها { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فإن هذا من الإحسان ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته . ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته . والتمتع في نفوسهم خاطر من بعيد :
( قالوا : أئنك لأنت يوسف ؟ ) . .
أئنك لأنت ؟ ! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير
( قال : أنا يوسف . وهذا أخي . قد من الله علينا . إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) . .
مفاجأة ! مفاجأة عجيبة . يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة . . ولا يزيد . . سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه ، معللا هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء .
{ قالوا أئنك لأنت يوسف } استفهام تقرير ولذلك حقق بأن ودخول اللام عليه . وقرأ ابن كثير على الإيجاب . قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به ، وقيل تبسم فعرفوه بثناياه . وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكانت لسارة ويعقوب مثلها . { قال أنا يوسف وهذا أخي } من أبي وأمي ذكره تعريفا لنفسه به ، وتفخيما لشأنه وإدخالا له في قوله : { قد منّ الله علينا } أي بالسلامة والكرامة . { إنه من يتّق } أي يتق الله . { ويصبر } على البليات أو على الطاعات وعن المعاصي . { فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر .
قولهم : { أإنك لأنت يوسف } يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قَول أبيهم لهم : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريداً نفسه .
وتأكيد الجملة ب { إنّ } ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف عليه السلام .
وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكّدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلِمهم به .
وقرأ ابن كثير { إنك } بغير استفهام على الخبرية ، والمراد لازم فائدة الخبر ، أي عرفناك ، ألا ترى أن جوابه ب { أنَا يوسف } مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك .
وقوله : { وهذا أخي } خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة ، فجملة { قد من الله علينا } بيان للمقصود من جملة { وهذا أخي } .
وجملة { إنه من يتق ويصبر } تعليل لجملة { منَّ الله علينا } . فيوسف عليه السلام اتّقى الله وصبر وبنيامين صَبر ولم يعْص الله فكان تقياً . أراد يوسف عليه السلام تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى ، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضاً بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم .
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة ، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته .
وذكر المحسنين وضعٌ للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال : فإن الله لا يضيع أجرهُم . فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان ، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل ، ويدخل في عمومه هو وأخوه .
ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى الله عليه وسلم « إنّي لأتقاكم لله وأعلمكم به » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا}، يقول: قد أنعم الله علينا، {إنه من يتق ويصبر} على الأذى، {فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}، يعنى جزاء من أحسن حتى يوفيه جزاءه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال إخوة يوسف له حين قال لهم ذلك يوسف:"أإنّكَ لأَنْتَ يُوسُفَ"، فقال: نعم "أنا يُوسُفُ وَهَذَا أخِي قَدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنا "بأن جمع بيننا بعد ما فرّقتم بيننا. "إنّهُ مَنْ يَتّقِ وَيَصْبِرْ "يقول: إنه من يتق الله فيراقبه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ويصبر، يقول: ويكفّ نفسه، فيحبسها عما حرم الله عليه من قول أو عمل عند مصيبة نزلت به من الله "فإنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ" يقول: فإن الله لا يبطل ثواب إحسانه وجزاء طاعته إياه فيما أمره ونهاه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره، لأنه لا يستفهم ملك مثله -لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم... ولذلك {قالوا} مستفهمين {أإنك} وأكدوا بقولهم: {لأنت يوسف}.
ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال: {قال أنا يوسف} وزادهم قوله: {وهذا أخي} أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله {وأخيه} وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه
قوله: {قد منَّ الله} أي الذي له الجلال والإكرام {علينا} بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله: {إنه من يتق ويصبر} أي يوفه الله أجره لإحسانه {فإن الله} أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال {لا يضيع} أي أدنى إضاعة- أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال: {أجر المحسنين} والتقوى: دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر: حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما تشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام -إن لم تكن بالتدريج- عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهم من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القالة بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذلك منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربي معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادها، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل الخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد -والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة لعلكم تعقلون} [يوسف:2] على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان- كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛ {حتى إذا استيئس الرسل} [يوسف:110] الآية والله أعلم.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
الإيضاح: {قالوا أئنك لأنت يوسف} أي قالوا من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف، وقد عجبوا من أنهم يترددون عليه مدى سنتين أو أكثر وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم ويكتم نفسه. {قال أنا يوسف} الذي ظلمتموني غاية الظلم، وقد نصرني الله فأكرمني وأوصلني إلى أسمى المراتب، أنا ذلك العاجز الذي أردتم قتله بإلقائه في غيابة الجب، ثم صرت إلى ما ترون. {وهذا أخي} الذي فرقتم بيني وبينه وظلمتموه، ثم أنعم الله عليه بما تبصرون. {قد من الله علينا} فجمع بيننا بعد الفرقة، وأعزنا بعد الذلة، وآنسنا بعد الوحشة، وخلّصنا مما ابتلينا به. وفيه إيماء إلى أنه لا وجه لطلبكم بنيامين، لأنه أخي لا أخوكم. تنبيه: فإن قيل لم يعرّف يوسف إخوته بنفسه في أول مرة ليبشروا أباهم به، وبما هو عليه من حسن حال وبسطة جاه فيكون في ذلك السرور كل السرور له؟ فالجواب عن ذلك ما أجاب به ابن القيم في كتابه "الإغاثة الكبرى "قال رحمه الله: لو عرفهم بنفسه في أول مرة لم يقع الاجتماع بهم وبأبيه ذلك الموقع العظيم ولم يحل ذلك المحل وهذه عادة الله في الغايات العظيمة الحميدة، إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ له أسبابا من المحن والبلايا والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت وأهوال البرزخ والبعث والنشور والموقف والحساب والصراط ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج، ونصره ذلك النصر العزيز بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه. وكذلك ما فعل برسله كنوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح وشعيب عليهم السلام. فهو سبحانه يوصّل إلى الغايات الحميدة بالأسباب التي تكرهها النفوس وتشق عليها كما قال: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216] وربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب... {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أي أن الحق الذي نطقت به الشرائع وأرشدت إليه التجارب هو: من يتق الله فيما به أمر وعنه نهى، ويصبر على ما أصابه من المحن وفتن الشهوات والأهواء، فلا يستعجل الأقدار بشيء قبل أوانه، فإنه الله لا يضيع أجره في الدنيا ثم يؤتيه أجره في الآخرة. وفي الآية شهادة له من ربه بأنه من المحسنين المتقين الله، وبأن من كان مطيعا لنفسه الأمارة بالسوء ومتبعا لنزغات الشيطان فإن عاقبته الخزي في الدنيا والنكال في الآخرة، إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ورن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته. ولاحت لهم ملامح وجه لعلهم لم يلتفتوا إليها وهم يرونه في سمت عزيز مصر وأبهته وشياته. والتمتع في نفوسهم خاطر من بعيد: (قالوا: أئنك لأنت يوسف؟).. أئنك لأنت؟! فالآن تدرك قلوبهم وجوارحهم وآذانهم ظلال يوسف الصغير في ذلك الرجل الكبير (قال: أنا يوسف. وهذا أخي. قد من الله علينا. إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين). مفاجأة! مفاجأة عجيبة. يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في إجمال بما فعلوه بيوسف وأخيه في دفعة الجهالة.. ولا يزيد.. سوى أن يذكر منة الله عليه وعلى أخيه، معللا هذه المنة بالتقوى والصبر وعدل الله في الجزاء...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} أظهر في موضع الاضمار، فلم يقل إن الله لا يضيع أجرنا، وكان ذلك لوصف عملهم بالإحسان أولا، ولأن الإحسان هو السبب في من الله تعالى وعطائه ثانيا، وللتعريض بما فعل الإخوة معه، وأنه لم يكن من الإحسان في شيء ثالثا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وكان حديثه بمثابة صدمة أعادتهم إلى الماضي فتذكروا ملامح يوسف، في ملامح وجه العزيز ونبرات صوته، وشعروا بروح الإيمان التي حدثهم عنها أبوهم يعقوب وما تمثله من انتظار الفرج من الله تواجههم الان، فعرفوا في هذا العزيز أخاهم يوسف، في ما يشبه الوحي، أو اللمعة الفكرية والروحية التي تشرق في الذات، فتضيء جوانب الحاضر من خلال الماضي. {قَالُواْ أَءِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ} هل هذا وهم وخيال، أم هي الحقيقة التي تواجهنا؟! {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ} بلطفه وكرمه، وأكرمنا من حيث أردتم إهانتنا، وأعزنا من حيث أردتم إذلالنا، وفتح لنا باب الحياة بأوسع مجالاتها. فأين نحن الآن وأين أنتم، أليس في ذلك عبرة لكم ودرسٌ كبيرٌ؟ إن القوّة لا تصنع وحدها المستقبل، وإن العدوان لا يحقّق نجاحاً، بل الله، الذي يتقيه المؤمن، ويصبر امتثالاً لأوامره، هو الذي يصنع للإنسان مستقبله كما صنع له ماضيه وحاضره، وهو الذي يحقق له النجاح في حياته، {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} بما توحيه التقوى من إحسان العمل لله، ويؤكده الصبر من إحسان للذات وللحياة، {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} الذين أحسنوا النية، والعمل في كل خطوات الفكر والحياة...