روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (90)

{ قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ } استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيق ، ولعلهم قالوه اسغراباً وتعجباً ، وقرأ ابن كثير . وقتادة . وابن محيصن { إِنَّكَ } بغير همزة استفهام ، قال في «البحر » : والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر أن اتحد القائلون وهو الظاهر ، فإن قدر أن بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد ، و { أَنتَ } في القراءتين مبتدأ و { يُوسُفَ } خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام ، وقرأ أبي { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أئنك لغير يوسف أو أنت يوسف ، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أئنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال : وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق ، قال في «الكشف » وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجرى على اقنون الاستفهام ، ولعل الأنسب أن يقدر أئنك أنت أو أنت يوسف تجهيلاً لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أئنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف ، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزاً ، وفيه قلة الإضمار أيضاً مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين .

فإن قيل : ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو ، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن الاستفهام غير جار على الحقيقة ، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضاً مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل : عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل ، وقيل : كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه ، وقيل : تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضىء ما حواليه من نور تبسمه ، وقيل : إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب . وإسحاق . وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك ، وينضم إلى كل ذلك علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ( {[428]} ) إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر ، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ } والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليه قوله : { وهذا أَخِى } أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه ، قال بعض المدققين : إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكداً ، ولهذا لم يقل عليه السلام : بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم { وهذا أَخِى } بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله : { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا } وجوز الطيبي أن يكون ذلك جارياً على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف ؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي وليس من ذاك في شيء كما لا يخفى .

وفي إرشاد العقل السليم أن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيماً لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } [ يوسف : 89 ] حسبما يفيده { قَدْ مَنَّ } الخ فكأنه قال : هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة . ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه . وجملة { قَدْ مَنَّ } الخ عند أبي البقاء مستأنفة ، وقيل : حال من { يُوسُفَ } و { أَخِى } وتعقب بأن فيه بعداً لعدم العامل في الحال حينئذٍ ، ولا يصح أن يكون { هذا } لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعاً { أَنَّهُ } أي الشأن { مَن يَتَّقِ } أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه { وَيِصْبِرْ } على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين }( {[429]} ) أي أجرهم ، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان ، والجملة في موضع العلة للمن . واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر ، وقال مجاهد . المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن ، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة ، وقيل : من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس ، وقال الزمخشري : المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات . وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال : من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهى عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن ، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ، ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل : من يتق ويثبت على التقوى انتهى .

والوجه الأول : ميل لما ذكره أبو حيان . وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض باخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر . وقرأ قنبل { مِنْ * يَتَّقِى } بإثبات الياء ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع ؛ وقيل : جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة ، وقيل : هو مرفوع و { مِنْ } موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن { مِنْ } شرطية و { يَتَّقِى } مجزوم ، وقيل : أن { *يصبر } مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] ونحوهما أو للوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف ، والأحسن من هذه الأقوال كما في «البحر » أن يكون يتقي مجزوماً على لغة وإن كانت قليلة ، وقول أبي علي : إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجىء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظماً ونثراً .

( ومن باب الإشارة { قَالُواْ أَءنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } خاطبوه بعد المعرفة بخطاب المودة لا بخطاب التكلف ، وفيه من حسن الظن فيه عليه السلام ما فيه :

إذا صفت المودة بين قوم *** ودام ولاؤهم سمج الثناء

ويمكن أن يقال : إنهم لما عرفوه سقطت عنهم الهيبة وهاجت الحمية فلم يكلموه على النمط الأول ، وقوله : { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى } [ يوسف : 90 ] جواب لهم لكن زيادة { وهذا أَخِى } قيل : لتهوين حال بديهة الحجل ، وقيل : للإشارة إلى أن إخوتهم لا تعد إخوة لأن الإخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء ،


[428]:- أي أصل اهـ منه.
[429]:- جواز أبو حيان كون المحسنين عاما يندرج فيه من تقدم فتأمل اهـ منه.