البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (90)

{ قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين .

قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين .

قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .

اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين } : لما خاطبهم بقوله : هل علمتم ؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ، ولا تتبع أحوالهم ، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال : إنه كان يكلمهم من وراء حجاب ، فرفعه ووضع التاج وتبسم ، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة ، فتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار .

وقيل : استفهام تقرير ، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها .

وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : كيف عرفوه ؟ ( قلت ) : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو ، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام ، لا عن بعض أعزاء مصر .

وقرأ الجمهور : أئنك على الاستفهام ، والخلاف في تحقيق الهمزتين ، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين ، أو التحقيق مذكور في القراآت السبع .

وقرأ قتادة ، وابن محيصن ، وابن كثير : إنك بغير همزة استفهام ، والظاهر أنها مرادة .

ويبعد حمله على الخبر المحض ، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر ، فإن قدر أنّ بعضاً استفهم وبعضاً أخبر ، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم : أمكن ، وهو مع ذلك بعيد .

وقرأ أبي : أئنك أو أنت يوسف .

وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره : أئنك لأنت يوسف ، أو أنت يوسف .

وقدره الزمخشري : أئنك يوسف ، أو أنت يوسف ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال : وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرر الاستثبات انتهى .

وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا : أو أنت يوسف ؟ وفي قراءة الجمهور : أئنك لأنت ، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت ، وهو فصل : وخبر إنّ يوسف كما تقول : إنْ كان زيد لهو الفاضل .

ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ ، ويوسف خبره ، والجملة في موضع خبر إن ، ولا يجوز أن يكون أنت توكيداً للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما .

ولما استفهموه أجابهم فقال : أنا يوسف كاشفاً لهم أمره ، وزادهم في الجواب قوله : وهذا أخي ، لأنه سبق قوله : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه ، وإن كان معلوماً عندهم وتوطئة لما ذكر بعد من قوله : قد منَّ الله علينا أي : بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة .

ثم ذكر أنّ سبب منِّ الله عليه هو بالتقوى والصبر ، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر .

وقال مجاهد : من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن .

وقال النخعي : من يتقي الزنا ويصبر على العزوبة .

وقيل : ومن يتق الله ويصبر على المصائب .

وقال الزمخشري : من يتق ، من يخف الله .

وعقابه ، ويصبر عن المعاصي ، وعلى الطاعات .

وقيل : من يتقي معاصي الله ، ويصبر على أذى الناس ، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله .

وقرأ قنبل : من يتقي ، فقيل : هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة ، وهذه الياء إشباع .

وقيل : جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول : لم يرمي زيد ، وقد حكوا ذلك لغة .

وقيل : هو مرفوع ، ومن موصول بمعنى الذي ، وعطف عليه مجزوم وهو : ويصبر ، وذلك على التوهم .

كأنه توهم أن من شرطية ، ويتقي مجزوم .

وقيل : ويصبر مرفوع عطفاً على مرفوع ، وسكنت الراء لا للجزم ، بل لتوالي الحركات ، وإن كان ذلك من كلمتين ، كما سكنت في يأمركم ، ويشعركم ، وبعولتهن ، أو مسكناً للوقف ، وأجرى الوصل مجرى الوقف .

والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوماً على لغة ، وإن كانت قليلة ، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال : وهذا مما لا يحمل عليه ، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام ، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة .

والمحسنين : عام يندرج فيه من تقدم ، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل : لا يضيع أجرهم .