اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُوٓاْ أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُۖ قَالَ أَنَا۠ يُوسُفُ وَهَٰذَآ أَخِيۖ قَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَآۖ إِنَّهُۥ مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (90)

قوله : " أئِنَّكَ " قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر : " إنَّكَ " بهمزة واحدة على الخبر والباقون بهمزتين استفهاماً ، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً ، وتسهيلاً وغير ذلك ، فأمَّا قراءة ابن كثير ، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد .

وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً ، وبعضهم قاله خبراً ، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق ، والقراءة الأخرى عليه ، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب .

وقرأ أبيّ ( أَوَأَنْتَ يوسف ) فمن قرأ بالاستفهما قالوا : إنَّ يوسف لما قال لهم : { هل علمتم ما فعلتم } تبيَّنوا يوسف ، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم .

وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف ، ولم يعرفوه ، فقالوا استفهاماً : { أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } ويدلُّ على أنه استفهام قوله : " أنَا يُوسفُ " ، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه ، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال : إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه ، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق ، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة .

وقال ابن إسحاقك " كان يتكلَّم من وراء ستر ، فلما قال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ } رفع الحجاب فعرفوه " وقيل : قالوه على التَّوُّهمِ .

" واللام في : " لأنْتَ " لام الابتداء ، و " أنْتَ " مبتدأ ، و " يُوسفُ " خبره والجملة خبر " إنَّ " ويجوز أن تكون " أنْتَ " فصلاً ، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم " إنَّ " لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد " .

وقرأ أبي : ( أئنك أو أنت يوسف ) وفيها وجهان :

أحدهما : قال أبُوا الفتح : إنَّ الأصل : أئنك لغير يوسف ، أو أنت يوسف فحذف خبر " إن " لدلالة المعنى عليه .

والثاني : ما قاله الزمخشريُّ : المعنى : أئنَّك يوسف ، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته ، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع ، فهو يكرِّر الاستثبات فقال : { أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي } وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته ، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر ، فكأنه قال : أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه ، والله أوصلني إلى أعظم المناصب ، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله ، وإلقاءه في الجبِّ ، ثمَّ صرتُ كما ترون ، ولهذا قال : " وهَذا أخِي " مع أنَّهم كانوا يعرفونه ؛ لأن مقصوده أن يقول : وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون . { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ } قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة . . وقيل : بالجمع بيننا بعد الفرقة .

قوله : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } قرأ قنبل " يتقي " بإثبات الياء وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها فيهما .

فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة ؛ لأنَّه مجزومٌ ، وأمَّا قراءة قنبلٍ ، فاختلف فيها النَّاس على قولين :

أحدهما : أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب ؛ وأنشدوا : [ الوافر ]

3145 أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي *** بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ

وقول الآخر : [ البسيط ]

3146 هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً *** مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ

وقول الآخر : [ الرجز ]

3147 إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ *** ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ

وقول الآخر : [ الرجز ]

3148 إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ *** واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ

هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ

ومذهب سيبويه : أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة ، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع ، والمجزوم .

واعترض عليه : بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم ، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم .

وأجيب : بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف ، بيانه : أنَّك إذا قلت " زُرْنِي أعْطِتكَ " بثبوت الياءِ ، احتمل أن يكون " أعْطِيكَ " جزاء الزيارة ، وأن يكون خبراً مستأنفاً ، فإذا قلت : " أعْطِكَ " بحذفها تعين أن يكون جزاء له ؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة ، وفقد بحذفه ، فيقالُ : حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به .

ومذهب ابنِ السَّراج أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه ، وفيه البحثُ المتقدم .

والثاني : أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و " مَنْ " موصولةٌ ، والفعل صلتها ؛ فلذلك لم يحذف لامه .

واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله : " ويَصْبِرْ " فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء .

وأجيب عن ذلك : بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات ، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] ، و { يَأْمُرَكُمْ } [ آل عمران : 80 ] ، وأجيب أيضاً : بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت " مَنْ " الموصولة تشبه " مَنْ " الشرطية ، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن ، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي ، ولا يقال للتَّوهُّم .

وأجيب أيضاً : بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف .

وأجيب أيضاً : بأنه إنما جزم حملاً ل " مَنْ " الموصولة على " مَنْ " الشَّرطيَّة ؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى ، ولذلك دخلت [ الفاء ] في خبرها .

قال شهابُ الدِّين : وقد يقالُ على هذا : يجوز أن تكون " مَنْ " شرطيَّة ، وإنَّما ثبتت الياء ، ولم تجزم " من " لشبهها ب " مَنْ " الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله : " ويَصْبِرْ " ، فلذلك جزمه ، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده ، ويليه ، ويؤثر فيما هو بعيد منه ، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله : { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .

وقوله : { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ } الرَّابطُ بين جملة الشَّرط ، وبين جوابها : إمَّا العموم في " المُحْسِنيِنَ " ، وإمَّا الضمير المحذوف ، أي : المحسنين منهم ، وإمَّا لقيام : " ألْ " مقامه ، والأصل : محسنيهم ، فقامت " ألْ " مقام ذلك الضَّمير .

فصل

معنى الآية : من يتَّق معاصي الله ، ويصبر على أذى النَّاسِ .

وقيل : من يتَّق بأداء الفرائض ، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه .

وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : يتّقي في الزِّنا ، ويصبر على العُزوبةِ ، وقال مجاهدٌ : يتقي المعصية ، ويصبر على السجن .

{ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } قال ابن الخطيب : " واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً ، و لو أنه أقدم على المعصية كما قالوه في حق زليخا ، لكان هذا القول كذباً منه ، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء " .