( أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وما لهم من ناصرين ) .
وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور . فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتا مسموما ، توطئة لهلاكها . . وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين . ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك ! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام !
وذكر الكفر بآيات الله مصحوبا بقتل النبيين بغير حق - وما يمكن أن يقتل نبي ثم يكون هناك حق - وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس - أي الذين يأمرون باتباع منهج الله القائم بالقسط المحقق وحده للقسط . . ذكر هذه الصفات يوحي بأن التهديد كان موجها لليهود ، فهذه سمتهم في تاريخهم يعرفون بها متى ذكرت ! ولكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام موجها للنصارى كذلك . فقد كانوا حتى ذلك التاريخ قتلوا الألوف منأصحاب المذاهب المخالفة لمذهب الدولة الرومانية المسيحية - بما فيهم من جاهروا بتوحيد الله تعالى وبشرية المسيح عليه السلام - وهؤلاء ممن يأمرون بالقسط . . كما أنه تهديد دائم لكل من يقع منه مثل هذا الصنيع البشع . . وكثير ما هم في كل زمان . .
ويحسن أن نتذكر دائما ماذا يعني القرآن بوصف ( الذين يكفرون بآيات الله ) . . فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر . إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية ، وقصر العبودية عليها . وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين . . فمن جعل لغير الله شيئا من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته . ولو قالها ألف مرة باللسان ! وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام . .
جيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك الذين حبطت أعمالهم } لأنّهم تميّزوا بهذه الأفعال التي دلت عليها صِلاتُ الموصول أكملَ تمييز ، وللتنبيه على أنّهم أحِقَّاءِ بما سيخبر به عنهم بعدَ اسم الإشارة .
واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره { الذين حَبِطتْ أعمالهم } ، وقيل هو خبر ( إنّ ) وجملة { فبشرهم بعذاب أليم } وهو الجاري على مذهب سيبويه لأنّه يمنع دخول الفاء في الخبر مطلقاً .
وحَبَط الأعمالِ إزالةِ آثارها النافعة من ثوابٍ ونعيم في الآخرة ، وحياةٍ طيّبة في الدنيا ، وإطلاق الحَبَط على ذلك تمثيل بحال الإبل التي يصيبها الحَبَط وهو انتفاخ في بطونها من كثرة الأكل ، يكون سبب موتها ، في حين أكلت ما أكلت للالتذاذ به .
وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيَمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } في ( سورة البقرة 217 ) .
والمعنى هنا أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب ، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين ، فلمّا كفروا بآيات الله ، وجحدوا نبوءة محمد ، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط ، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم ، ولذلك ابتُدىء به بقوله : { فبشرهم بعذاب أليم } . فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة ، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا ، ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به .
وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولئك الذين} فعلوا ذلك {حبطت}: بطلت {أعمالهم}، فلا ثواب لهم، {في الدنيا و} لا في {الآخرة}، لأن أعمالهم كانت في غير طاعة الله عز وجل. {وما لهم من ناصرين}: من مانعين يمنعونهم من النار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن الذين ذكرناهم، هم الذين حبطت أعمالهم، يعني بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة. فأما قوله: {فِي الدّنْيَا}؛ فلم ينالوا بها محمدة ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمة، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بورا لا ثواب لها، لأنها كانت كفرا بالله، فجزاء أهلها الخلود في الجحيم.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ}: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذهم منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}... يحتمل أعمالهم التي فعلوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلما بعث كفروا به، فبطلت تلك الأعمال، ويحتمل ما كان لهم من الأعمال من صلة الأرحام والقربات والصدقات، فبطلت لما لا قوام لها إلا بالإيمان، فلما لم يأتوا به بطلت...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أما حبوطها في الدنيا، فلأنهم لم ينالوا بها مدحا ولا ثناء. وأصل الحبوط مأخوذ من قولهم: حبطت بطون الماشية: إذا فسدت من مآكل الربيع... [و] إنما تبطل الطاعة حتى تصير بمنزلة مالم تفعل، إذا وقعت على خلاف الوجه المأمور به...
وقوله:"وما لهم من ناصرين" يدل على أنه تعالى لا ينصر كافرا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أولئك الذين ليس لهم -اليومَ- توفيق بأعمالهم، ولا غداً تحقيق لآمالهم، وما ذلك إلا لأنهم فقدوا في الدارين نصرتنا، ولم يشهدوا عِزَّنا وقدرتنا...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أولئك الذين حبطت أعمالهم} بطلت أعمالهم التي يدعونها من التمسك بالتوراة وإقامة شرع موسى عليه السلام {في الدنيا} لأنها لم تحقن دماءهم وأموالهم، و في {الآخرة} لأنهم لم يستحقوا بها ثوابا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{حبطت}: بطلت وسقط حكمها، وحبطها في الدنيا بقاء الذم واللعنة عليهم، وحبطها في الآخرة كونها هباء منبثاً وتعذيبهم عليها،...
النوع الثاني من الوعيد: قوله {أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}. اعلم أنه تعالى بين بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي، وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم، وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب. النوع الثالث من وعيدهم: قوله تعالى: {وما لهم من ناصرين}. اعلم أنه تعالى بين بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبين بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبين بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع، والله أعلم...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة، ليقابل كل وصف بمناسبه؛ ولما كان الكفر بآيات الله أعظم، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم. وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة. وقابل قتل الآمرين بالقسط بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال: إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب، لتقع المناسبة بين الأعمال والعاملين فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {الذين حبطت} أي فسدت...
قوله: {وما لهم من ناصرين} قال الحرالي: فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى: {ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء} [الروم: 4، 5] فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم "يقتلون في آخر الزمان حتى يقول الحجر: يا مسلم! خلفي يهودي فاقتله، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الغرقد "كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنه من شجرهم" وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى كونها حبطت في الدنيا، والآخرة أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات، بل عوملوا معاملة أهل السيئات، فلعنوا وحل بهم الخزي والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وقد دلت الآية على عظم حال من يأمر بالمعروف، وعظم ذنب قاتله، لأنه قرن ذلك بالكفر بالله تعالى، وقتل الأنبياء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
فلا ينتفعون بشيء منها لأن العمل الصالح إنما ينفع بحسن أثره في النفس ونفوس هؤلاء قد أوغل فيها الفساد كما تقدم ففقدت الاستعداد والقبول لكل خير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبطلان لأعمالهم في الدنيا والآخرة في تعبير مصور. فالحبوط هو انتفاخ الدابة التي ترعى نبتا مسموما، توطئة لهلاكها.. وهكذا أعمال هؤلاء قد تنتفخ وتتضخم في الأعين. ولكنه الانتفاخ المؤدي إلى البطلان والهلاك! حيث لا ينصرهم ناصر ولا يدفع عنهم حام!... ويحسن أن نتذكر دائما ماذا يعني القرآن بوصف (الذين يكفرون بآيات الله).. فليس المقصود فقط من يعلن كلمة الكفر. إنما يدخل في مدلول هذا الوصف من لا يقر بوحدة الألوهية، وقصر العبودية عليها. وهذا يتضمن بصراحة وحدة الجهة التي تصرف حياة العباد بالتشريع والتوجيه والقيم والموازين.. فمن جعل لغير الله شيئا من هذا ابتداء فهو مشرك به أو كافر بألوهيته. ولو قالها ألف مرة باللسان! وسنرى في الآيات التالية في السياق مصداق هذا الكلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المعنى هنا: أنّ اليهود لما كانوا متديّنين يَرجون من أعمالهم الصالحة النفعَ بها في الآخرة بالنجَاة من العقاب، والنفع في الدنيا بآثار رضا الله على عباده الصالحين، فلمّا كفروا بآيات الله، وجحدوا نبوءة محمد، وصوّبوا الذين قَتَلوا الأنبياء والذين يأمرون بالقسط، فقد ارتدُّوا عن دينهم فاستحقّوا العذاب الأليم، ولذلك ابتدئ به بقوله: {فبشرهم بعذاب أليم}. فلا جرم تَحْبَطُ أعمالهم فلا ينتفعون بثوابها في الآخرة، ولا بآثارها الطيّبة في الدنيا. {وما لهم من ناصرين}: ما لهم من ينقذهم من العذاب الذي أنذروا به. وجيء بمن الدالة على تنصيص العموم لئلاّ يترك لهم مدخل إلى التأويل...
{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ...}. إنهم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير حق، وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس، هؤلاء لهم العذاب، ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا والآخرة، وكذلك من نهج نهجهم،... وحينما يقول الحق: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عملا هو في ظاهره خير، فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه عَمِلَ خيرا. لماذا؟ لأن عمل الخير لا يحسب للإنسان إلا بنية إيمانه بمن يجازي، فالإنسان إن عمل عملا قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن، فلماذا يكون عمل هؤلاء حابطا في الدنيا، وفي الآخرة؟ إنه حابط بموازين الإيمان ويكون العمل حابطا لأنه لم يصدر من مؤمن، لأن ذلك الإنسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل، لا ثقة بالأمر الأعلى...
كأن الله يقول لصاحب مثل هذا العمل: أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل، فخذ جزاءك ممن كان في بالك. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} إن أعمالهم حبطت في الدنيا، لأنهم قد يعملون عملا يراد به الكيد للإسلام، لذلك لا يمكنهم الله من ذلك، بل يخذلهم جميعا. وانتصر دين الله رغم قلة العُدّة. وليس لهؤلاء ناصرون. أي ليس لهم من يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم الله، فليس مع الله أحد غيره...