{ فَلَمَّا أَلْقَوْا } حبالهم وعصيهم ، إذا هي كأنها حيات تسعى ، ف { قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ } أي : هذا السحر الحقيقي العظيم ، ولكن مع عظمته { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق ، وأي فساد أعظم من هذا ؟ ! !
وهكذا كل مفسد عمل عملاً ، واحتال كيدًا ، أو أتى بمكر ، فإن عمله سيبطل ويضمحل ، وإن حصل لعمله روجان في وقت ما ، فإن مآله الاضمحلال والمحق .
وأما المصلحون الذين قصدهم بأعمالهم وجه الله تعالى ، وهي أعمال ووسائل نافعة ، مأمور بها ، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها ، وينميها على الدوام ، فألقى موسى عصاه ، فتلقفت جميع ما صنعوا ، فبطل سحرهم ، واضمحل باطلهم .
ونلاحظ هنا اختصاراً في موقف المباراة ، لأن نهايته هي المقصودة . وفي قولة موسى : ( ما جئتم به السحر ) . رد على تهمة السحر التي وجهت إليه . فالسحر هو هذا الذي يصنعه هؤلاء ، لأنه ليس أكثر من تخييل وسحر للأنظار لا هدف له إلا اللعب بالعقول ، لا تصحبه دعوة ، ولا تقوم عليه حركة . فهذا هو السحر لا آيات اللّه التي جاءهم بها حقاً من عند اللّه . وفي قوله :
تتجلى ثقة المؤمن الواثق بربه ، المطمئن إلى أن ربه لا يرضى أن ينجح السحر وهو عمل غير صالح :
( إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين ) . .
الذين يضللون الناس بالسحر ، أو الملأ الذين جاءوا بالسحرة بنية الفساد والإبقاء على الضلال :
{ فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السّحر } أي الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحرا . وقرأ أبو عمرو { السحر } على أن { ما } استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها و{ السحر } بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره أهو السحر ، أو مبتدأ خبره محذوف أي السحر هو . ويجوز أن ينتصب ما يفعل يفسره ما بعده وتقديره أي شيء أتيتم . { إن الله سيُبطله } سيمحقه أو سيظهر بطلانه . { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يثبته ولا يقويه وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له .
وقوله تعالى : { فلما ألقوا } الآية ، المعنى فلما ألقوا حبالهم وعصيهم وخيلوا بها وظنوا أنهم قد ظهروا قال لهم موسى هذه المقالة ، ، وقرأ السبعة سوى أبي عمرو { السحر } وهي قراءة جمهور الناس ، وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع { به السحر } بألف الاستفهام ممدودة قبل { السحر } .
فأما من قرأ { السحر } بغير ألف استفهام قبله ف { ما } في موضع رفع على الابتداء وهي بمعنى الذي وصلتها قوله { جئتم به } والعائد الضمير في { به } وخبرها { السحر } ، ويؤيد هذه القراءة والتأويل أن في مصحف ابن مسعود «ما جئتم به سحر » ، وكذلك قرأها الأعمش وهي قراءة أبي بن كعب ، «ما أتيتم به سحر » ، والتعريف هنا في السحر أرتب لأنه قد تقدم منكراً في قولهم { إن هذا لسحر } [ يونس : 76 ] فجاء هنا بلام العهد كما يقال في أول الرسالة ، سلام عليك وفي آخرها والسلام عليك{[6192]} ، ويجوز أن تكون { ما } استفهاماً في موضع رفع بالابتداء و { جئتم به } الخبر و { السحر } خبر ابتداء تقديره هو السحر إن الله سيبطله ، ووجه استفهامه هذا هو التقرير والتوبيخ ، ويجوز أن تكون { ما } في موضع نصب على معنى أي شيء جئتم و { السحر } مرفوع على خبر الابتداء تقدير الكلام أي شيء جئتم به هو السحر ، { إن الله سيبطله } ، وأما من قرأ الاستفهام والمد قبل { السحر } ف { ما } استفهام رفع بالابتداء و { جئتم به } الخبر ، وهذا على جهة التقدير ، وقوله : { السحر } استفهام أيضاً كذلك ، وهو بدل من الاستفهام الأول ، ويجوز أن تكون { ما } في موضع نصب بمضمر تفسيره { جئتم به } تقديره أي شيء جئتم به السحر ، وقوله { إن الله سيبطله } إيجاب عن عدة من الله تعالى ، وقوله { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } ، يصح أن يكون من كلام موسى عليه السلام ، ويصح أن يكون ابتداء خبر من الله تعالى .
ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجَعْلِ { ما جئتم } مسنداً إليه دون أن يجعل مفعولاً لفعللِ { سيبطله } ، وبجَعْله اسماً مُبهماً ، ثُم تفسيره بجملة { جئتم به } ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر ، وهو جملة { إن الله سيبطله } ثم مَجيء ضمير السحر مفعولاً لفعل { سيبطله } ، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر ، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكَّن في أذهان السامعين فَضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم .
وقوله : { السحر } قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة ( ال ) ، فتكون ( ما ) في قوله : { ما جئتم به } اسم موصول ، والسحرُ عطفَ بيان لاسم الموصول . وقرأه أبو عمرو ، وأبو جعفر { آلسحر } بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية ، فتكون ( ما ) في قوله : { ما جئتم به } استفهامية ويكون ( آلسحرَ ) استفهاماً مبيناً لِ ( ما ) الاستفهامية .
وهو مستعم في التحقير . والمعنى : أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون .
و { إن الله سيبطله } خبر ( ما ) الموصولة على قراءة الجمهور ، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب ( إن ) زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم .
وإبطاله : إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة ، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه ، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره ، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله ، وقد حصل ذلك العلم لموسى عليه السلام بطريق الوحي الخاص في تلك القضية ، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية ، وهي مدلول { إن الله لا يصلح عملَ المفسدين } .
فجملة : { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } معترضة ، وهي تعليل لمضمون جملة { إن الله سيبطله } ، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح . وتعريف { المفسدين } بلام الجنس ، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليُعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين ، وإضافة { عمل } إلى { المفسدين } يؤذن بأنه عمل فاسد ، لأنه فعل مَنْ شأنُهم الإفساد فيكون نسجاً على منوالهم وسيرة على معتادهم ، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده . وليس المراد نفي تصييره صالحاً ، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحاً حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله ، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح ، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنَها ، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل .
ولما قدم قوله : { إن الله سيبطله } عُلم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب بطلانه عليه حتى يبطل تأثيره ، وأن عدم إصلاح أعمال أمثالهم هو إبطال أغراضهم منها كقوله تعالى : { ويُبطلَ الباطلَ } [ الأنفال : 8 ] أي يظهرَ بطلانه .
وإنما كان السحرة مفسدين لأن قصدهم تضليل عقول الناس ليكونوا مسخرين لهم ولا يعلموا أسباب الأشياء فيبقوا ءالة فيما تأمرهم السحرة ، ولا يهتدوا إلى إصلاح أنفسهم سبيلاً . أما السحرة الذين خاطبهم موسى عليه السلام فإفسادهم أظهر لأنهم يحاولون إبطال دعوة الحق والدين القويم وترويج الشرك والضلالات .