روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{فَلَمَّآ أَلۡقَوۡاْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئۡتُم بِهِ ٱلسِّحۡرُۖ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبۡطِلُهُۥٓ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُصۡلِحُ عَمَلَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} (81)

{ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم { قَالَ } لهم { موسى } غير مكترث بهم وبما صنعوا { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } { مَا } موصولة وقعت مبتدأ و { السحر } خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفراداً أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحراً وهو للجنس ، ونقل عن الفراء أن أل للعه ، لتقدم السحر في قوله تعالى : { إِنَّ هذا لساحر } [ يونس : 76 ] ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتاً كما في { أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 ، 16 ] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة . ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعياً أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى : { والسلام على } [ مريم : 33 ] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتاً ، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلاً وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيداً والثاني عمراً مثلاً أن يقال : إن أل للعه ، لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحداً تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي ، و { السلام } فيما نقوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعدداً في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك .

وقد ذكر بعض المحققين أن القول يكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس . نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولاً معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصروان كان كلامهم يخالفه ظاهراً فليحرر انتهى . وأقول : دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، ولعله أراد الجنس وأن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلاً عن ابن عصفور أنه قال : لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم المعرفة . وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك . وقرأ عبد الله { ساحر } بالتنكير ، وأبى { مَّا ءاتَيْتُم * بِهِ * ساحر } والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضاً لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم :

{ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] وجوز في { مَا } في جميع هذا القراآت أن تكون استفهامية و { السحر } خبر مبتدأ محذوف . وقرأ أبو عمرو . وأبو جعفر { السحر } بقطع الألف ومدها على الاستفهام فما استفهامية مرفوعة على الابتداء و { جِئْتُمْ بِهِ } خبرها و { السحر } خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو ، وقد يجعل السحر بدلاً من { مَا } كما تقول ما عندك أدينار أم درهم ، وقد تجعل { مَا } نصباً بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به و { جِئْتُمْ بِهِ } مفسر له وفي { السحر } الوجهان الأولان .

وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره ، وفيه الأخبار بالجملة الإنشائية ، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملاً .

{ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلاً أو سيظهر بطلانه وفساده للناس ، والسين للتأكيد { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولاً أولياً ، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالافساد والاشعار بعلة الحكم ، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده ، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحاً لظهور أن ذلك مما لا يكون أي أنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوماً .

واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له . وأنت تعلم أن في اطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثاً ، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة .