القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأوّلين . بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركي قومك الذين أجرموا بالكفر بالله لا يُوءْمِنُونَ بِهِ يقول : لا يصدّقون : بالذكر الذي أنزل إليك . والهاء في قوله : نَسْلُكُهُ من ذكر الاستهزاء بالرسل والتكذيب بهم كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ قال : التكذيب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ لا يؤمنون به ، قال : إذا كذبوا سلك الله في قلوبهم أن لا يؤمنوا به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حميد ، عن الحسن ، في قوله : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ قال : الشرك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، قال : قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة ، ففسره أجمع على الإثبات ، فسألته عن قوله : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ قال : أعمال سيعملونها لم يعملوها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك عن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، قال : قرأت القرآن كله على الحسن ، فما كان يفسره إلا على الإثبات ، قال : وقفته على «نسلكه » ، قال : الشرك . قال : ابن المبارك : سمعت سفيان يقول في قوله : نَسْلُكُهُ قال : نجعله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ لا يُوءْمِنُونَ بِهِ قال : هم كما قال الله ، هو أضلهم ومنعهم الإيمان .
يقال منه : سَلَكَه يَسْلُكُه سَلْكا وسُلُوكا ، وأسلكه يُسْلِكه إسلاكا ومن السلوك قول عديّ بن زيد :
وكنْت لِزَازَ خَصْمِكَ لَمْ أُعَرّدْ *** وَقَدْ سَلَكوكَ في يَوْم عَصِيبِ
حتى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قُتائِدَةٍ *** شَلاّ كمَا تُطْرَدُ الجَمّالَةُ الشّرُدَا
وقوله : وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ يقول تعالى ذكره : لا يؤمن بهذا القرآن قومك الذين سلكت في قلوبهم التكذيب ، حتى يَرَوُا العَذَابَ الألِيمَ أخذا منهم سنة أسلافهم من المشركين قبلهم من قوم عاد وثمود وضربائهم من الأمم التي كذّبت رسلها ، فلم تؤمن بما جاءها من عند الله حتى حلّ بها سخط الله فهلكت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كذلكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المُجْرِمِينَ لا يُؤمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنّةُ الأوّلِينَ : وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم .
{ كذلك نسلُكه } ندخله . { في قلوب المجرمين } والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء . وفيه دليل على أن الله تعالى يوجد الباطل في قلوبهم . وقيل ل { الذكر } فإن الضمير الآخر في قوله : { لا يؤمنون به } له وهو خال من هذا الضمير ، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به ، أو بيان للجملة المتضمنه له ، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من المجرمين ، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه . { وقد خلت سنّة الأولين } أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم ، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة .
استئناف بياني ناشىء عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون } [ سورة الحجر : 11 ] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ سورة الذاريات : 53 ] .
والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] ؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر . فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر ، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل . ونظيره قوله في الآية الأخرى { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [ سورة التوبة : 125 ] .
والتعبير بصيغة المضارع في { نسلكه } للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال ، أي زمن نزول القرآن ، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن ، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله : { وقد خلت سنة الأولين } ، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم .
وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم .
والمشار إليه بقوله : { كذلك } هو السلك المأخوذ من { نسلكه } على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
والسلك : الإدخال . قال الأعشى :
كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق
أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين ، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين ، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه ؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به ، كما قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ سورة التوبة : 124 125 ] .
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة .
فضمير { نسلكه } و { به } عائدان إلى { الذكر } في قوله : { إنا نحن نزلنا الذكر } [ سورة الحجر : 9 ] أي القرآن .