ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين ؛ وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد صلى الله عليه وسلم ليحمل إليهم الحق والنور :
( وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) ! . .
يقصدون بالقريتين مكة والطائف . ولقد كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من ذؤابة قريش ، ثم من ذؤابة بني هاشم . وهم في العلية من العرب . كما كان شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] معروفاً بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته . ولكنه لم يكن زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية . وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) !
والله أعلم حيث يجعل رسالته . ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل . ولعله - سبحانه - لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سنداً من خارج طبيعتها ، ولا قوة من خارج حقيقتها ؛ فاختار رجلاً ميزته الكبرى . . الخلق . . وهو من طبيعة هذه الدعوة . . وسمته البارزة . . التجرد . . وهو من حقيقة هذه الدعوة . . ولم يختره زعيم قبيلة ، ولا رئيس عشيرة ، ولا صاحب جاه ، ولا صاحب ثراء . كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء . ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء . ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة . ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف .
ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع ، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء ، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هََذَا الْقُرْآنُ عَلَىَ رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش لما جاءهم القرآن من عند الله : هذا سحر ، فإن كان حقا فهلا نزل على رجل عظيم من إحدى هاتين القريتين مكة أو الطائف .
واختُلف في الرجل الذي وصفوه بأنه عظيم ، فقالوا : هلاّ نزل عليه هذا القرآن ، فقال بعضهم : هلاّ نزل على الوليد بن المُغيرة المخزومي من أهل مكة ، أو حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي من أهل الطائف ؟ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنَ عَظِيمٍ قال : يعني بالعظيم : الوليد بن المغيرة القرشيّ ، أو حبيب بن عمرو بن عُمير الثقفي ، وبالقريتين : مكة والطائف .
وقال آخرون : بل عُنِي به عُتْبةُ بن ربيعة من أهل مكة ، وابن عبد يالِيل ، من أهل الطائف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عَلَى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال عتبة بن ربيعة من أهل مكة ، وابن عبد ياليل الثقفي من الطائف .
وقال آخرون : بل عني به من أهل مكة : الوليد بن المُغيرة ، ومن أهل الطائف : ابن مسعود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال : الرجل : الوليد بن المغيرة ، قال : لو كان ما يقول محمد حقا أنزل علىّ هذا ، أو على ابن مسعود الثقفي ، والقريتان : الطائف ومكة ، وابن مسعود الثقفي من الطائف اسمه عروة بن مسعود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ على رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ والقريتان : مكة والطائف قال : قد قال ذلك مشركو قريش ، قال : بلغنا أنه ليس فخذ من قريش إلا قد ادّعته ، وقالوا : هو منا ، فكنا نحدّث أن الرجلين : الوليد بن المغيرة ، وعروة الثقفي أبو مسعود ، يقولون : هلا كان أُنزل على أحد هذين الرجلين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : قال ابن زيد ، في قوله : لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ قال : كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي ، كان عظيم أهل الطائف .
وقال آخرون : بل عني به من أهل مكة : الوليد بن المغيرة ، ومن أهل الطائف : كنانة بن عَبدِ بن عمرو . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْن عَظِيمٍ قال : الوليد بن المغيرة القرشي ، وكنانة بن عبد بن عمرو بن عمير ، عظيم أهل الطائف .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال جلّ ثناؤه ، مخبرا عن هؤلاء المشركين وَقالُوا لَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ إذ كان جائزا أن يكون بعض هؤلاء ، ولم يضع الله تبارك وتعالى لنا الدلالة على الذين عُنُوا منهم في كتابه ، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاختلاف فيه موجود على ما بيّنت .
عطف على جملة { قالوا هذا سحر } [ الزخرف : 30 ] فهو في حيّز جواب { لمّا } [ الزخرف : 30 ] التوقيتية واقع موقع التعجيب أيضاً ، أي بعد أن أخذوا يتعللون بالعلل لإنكار الحق إذ قالوا للقرآن : هذا سحر ، وإذ كان قولهم ذلك يقتضي أن الذي جاء بالقرآن ساحِر انتُقل إلى ذِكر طعن آخر منهم في الرّسول بأنه لم يكن من عظماء أهل القريتين .
ولولا } أصله حرف تحْضيض ، استعمل هنا في معنى إبطال كونه رسولاً على طريقة المجاز المرسل بعلاقة الملازمة لأن التحْضيض على تحصيل ما هو مقطوع بانتفاء حصوله يستلزم الجزم بانتفائه .
والقريتان هما : مكة والطائف لأنّهما أكبر قُرى تهامة بلد القائلين وأما يثرب وتيماء ونحوهما فهي من بلد الحجاز . فالتعريف في { القريتين } للعهد ، جعلوا عماد التأهل لسيادة الأقوام أمرين : عظمة المسوّد ، وعظمة قريته ، فهم لا يدينون إلا من هو من أشهر القبائل في أشهر القرى لأن القرى هي مأوى شؤون القبائل وتموينهم وتجارتهم ، والعظيم : مستعار لصاحب السؤدد في قومه ، فكأنه عظيم الذات .
روي عن ابن عباس أنهم عَنَوْا بعظيم مكة الوليدَ بن المغيرة المخزومي ، وبعظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي . وعن مُجاهد أنهم عنَوا بعظيم مكة عتبة بن رَبيعة وبعظيم الطائف كنانة بن عبد يَالِيل . وعن قتادة عنوا الوليدَ بن المغيرة وَعُروة بن مسعود الثقفي . ثم يحتمل أنهم قالوا هذا اللّفظ المحكي عنهم في القرآن ولم يسموا شخصين معيّنَيْن ، ويحتمل أنهم سمّوا شخصين ووصفوهما بهذين الوصفين ، فاقتصر القرآن على ذكر الوصفين إيجازاً مع التنبيه على ما كانوا يؤهلون به الاختيار للرسالة تحميقاً لرأيهم .
وكان الرجلان اللّذان عَنوهما ذَوَيْ مال لأنّ سَعة المال كانت من مقومات وصف السؤدد كما حكي عن بني إسرائيل قولهم : { ولم يؤت سعةً من المال } [ البقرة : 247 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.