{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالمحبة والموالاة والنصرة .
{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } هذه البضاعةَ الكاسدة ، والصفقةَ الخاسرة ، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء ، والخلود الدائم في العذاب العظيم ، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم ، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم .
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل ، وهو نهاية هذا الجزء . فيصف حالهم على عهد الرسول [ ص ] وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان ، فهم يتولون الذين كفروا ، ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة . وعلة ذلك - مع أنهم أهل كتاب - أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير . . فهم غير مؤمنين . ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين :
( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون ) . .
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود - على عهد رسول الله [ ص ] ينطبق على حالهم اليوم وغدا ، وفي كل حين . كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم . . مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن ، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن . .
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين ؛ ويؤلبونهم على المسلمين ، ( ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا ) . . كما حكى عنهم القرآن الكريم . وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب ، ومن قبلها ومن بعدها كذلك ؛ إلى اللحظة الحاضرة . . وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين !
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب ، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين ! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك ، كلما كانت المعركة مع المسلمين ! حتى و " المسلمون " لا يمثلون الإسلام في شيء . إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين ! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين ؛ ومن ينتمون إليه ، ولو كانوا في انتمائهم مدعين !
وصدق الله العظيم : ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ) . .
( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم : أن سخط الله عليهم ، وفي العذاب هم خالدون ) . .
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم . . إنها سخط الله عليهم . وخلودهم في العذاب . فما أبأسها من حصيلة ! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم ؛ ويا لها من ثمرة مرة . ثمرة توليهم للكافرين !
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم ؟ فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله : في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين ؛ وأعدائه الذين يتولون الكافرين !
القول في تأويل قوله تعالى : { تَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ترى يا محمد كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا ، يقول : يتولون المشركين من عبدة الأوثان ، يعادون أولياء الله ورسله لبِئْسَ ما قَدّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يقول تعالى ذكره : أُقْسم لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الاَخرة . أنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ في موضع رفع ترجمة عن «ما » الذي في قوله : لَبِئْسَ ما . وَفي العذابِ همْ خالدونَ يقول : وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون ، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه .
وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { ترى كثيراً } يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين ، أي ترى الآن إذا خبرناك ، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم ، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } أي قدمته للآخرة واجترحته ، ثم فسر ذلك قوله تعالى : { أن سخط الله عليهم } ف { أن سخط } في موضع رفع بدل من { ما } ، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم ، وقال الزجاج : «أن » في موضع نصب ب { أن سخط الله عليهم } .
استئناف ابتدائي ذُكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله : { يَتَولَّوْن الّذين كفروا } ، لأنّه لا يستغرب إلاّ لكونه صادراً ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين . والرؤية في قوله { ترى } بَصريّة ، والخطاب للرّسول . والمراد ب { كثير منهم } كثير من يهود المدينة ، بقرينة قوله { ترى } ، وذلك أنّ كثيراً من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقاً ، نظراً لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها ، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عيناً ليهود خَيبر وقُريظة والنضِير . ومعنى { يتولّون } يتّخذونهم أولياء . والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومَنْ حَول المدينة من الأعراب الذين بقُوا على الشرك . ومن هؤلاء اليهود كَعْبُ بن الأشرف رئيسُ اليهود فإنّه كان موالياً لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة . وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] .
وقوله { أنْ سخط الله عليهم } ( أنْ ) فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز ، كما في « الكشاف » كقوله تعالى : { ولولا أنْ ثَبَّتْنَاك } [ الإسراء : 74 ] ، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ . والتّقدير : لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سُخْطُ اللّهِ عليهم ، فسُخط الله مذموم . وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضباً خاصّاً لموالاتهم الّذين كفروا ، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف . ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله : { لُعِن الّذين كفروا من بني إسرائيل } [ المائدة : 78 ] . وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.