{ 12-13 } { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
يخبر تعالى بفضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسفن بأمره وتيسيره ، { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } بأنواع التجارات والمكاسب ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله تعالى فإنكم إذا شكرتموه زادكم من نعمه وأثابكم على شكركم أجرا جزيلا .
وبعد التهديد المخيف ، والوعيد الرعيب ، يعود فيلمس قلوبهم لمساً رفيقاً ، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض :
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
إن هذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . يحظى من رعاية الله - سبحانه - بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه . وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه ! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة ؛ بل ما استطاع أن يعيش معها ؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام .
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها ؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها ! ( لتجري الفلك فيه بأمره ) . . فهو - سبحانه - الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ؛ وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض . . وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر . وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : ( ولتبتغوا من فضله )كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة ؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار .
سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله ؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : ( ولعلكم تشكرون ) . . وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه . . إلى الله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الله أيها القوم ، الذي لا تنبغي الألوهة إلاّ له ، الذي أنعم عليكم هذه النعم ، التي بيّنها لكم في هذه الايات ، وهو أنه سَخّرَ لَكُم الْبَحْر لِتَجْرِيَ السفن فيه بأمره لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها ، ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكرهم النعم، فقال: {الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه}، يقول: لكي تجري السفن في البحر.
{ولتبتغوا} ما في البحر، {من فضله}، يعني الرزق.
{ولعلكم} يعني ولكي، {تشكرون} الله في هذه النعم فتوحدوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله أيها القوم، الذي لا تنبغي الألوهة إلاّ له، الذي أنعم عليكم هذه النعم، التي بيّنها لكم في هذه الآيات، وهو أنه سَخّرَ لَكُم الْبَحْر لِتَجْرِيَ السفن فيه بأمره لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها، ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به، وينهاكم عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الله الذي سخّر لكم البحر} يذكّرهم عظيم نِعمه في تسخير البحر لهم مع [أهواله وكثرة أمواجه وامتناعه] عن منافع الخلق، صيّره بلطفه ورحمته لهم كسائر البِقاع في الوصول إلى ما فيه من الجواهر واللآلئ بالغَوص فيه والخوض والاصطياد لما فيه من أنواع الصيد وغير ذلك من الأشياء بحِيلٍ علّمهم، وأسباب جعل لهم حتى يصلوا إلى ما فيه من أنواع الجواهر والأموال النفيسة، والله أعلم. وقوله تعالى: {لتجري الفُلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله} سخّرها لهم أيضا حتى عبروا البحر، ومرّوا عليه بسُفن أعطاهم، وحيل علّمهم حتى قدروا على عبوره والمرور عليه ليصلوا إلى قضاء حوائجهم التي تكون في البلدان النائية، وهو ما قال: {لتجري الفُلك فيه بأمره}.
أحدها: أن يكون عبارة عن تكوينه، أي بما كونه وإنشاؤه كذلك كقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}.
والثاني: يحتمل: {بأمره} أي بالأمر الذي له على العباد وسائر خلائقه..
{ولعلكم تشكرون} أي لكي يُلزمكم الشكر بذلك، أو ما ذكر ما فيه من الوجوه، والله أعلم...
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء؛
أحدها: الرياح التي تجري على وفق المراد.
ثانيها: خلق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك.
ثالثها "خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه.
وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر، فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{بأمره}: أي بقدرته، أناب الأمر مناب القدرة، كأنه يأمر السفن أن تجري.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى صفة الربوبية، ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته، فقال مستأنفاً دالاً على عظمتها بالاسم الأعظم: {الله} أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال.
ولما كان آخر الآيات التي قدمها الرياح، ذكر ما يتصرف بتسييرها فقال: {الذي سخر} أي وحده من غير حول منكم في ذلك بوجه من الوجوه.
{لكم} أيها الناس بركم وفاجركم.
{فيه بأمره} ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها.
ولما كان التقدير: لتعبروا بذلك فتعلموا أنه بقدرته خاصة لتؤمنوا به، عطف عليه قوله: {ولتبتغوا} أي تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص وغير ذلك {من فضله} لم يصنع شيئاً منه- سواه.
ولما كان التقدير: لتظهر عليكم آثار نعمته، عطف عليه قوله تعالى: {ولعلكم تشكرون} أي ولتكونوا بحيث يرجو منكم من ينظر حالكم ذلك شكر من أنعم عليكم به ليزيدكم من فضله في الدنيا والآخرة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذا المخلوق الصغير.. الإنسان.. يحظى من رعاية الله -سبحانه- بالقسط الوافر، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة، وينتفع بها على شتى الوجوه، وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها، والذي تسير وفقه ولا تعصاه! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة؛ بل ما استطاع أن يعيش معها؛ وهو هذا القزم الصغير، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام.
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها!
(لتجري الفلك فيه بأمره).. فهو -سبحانه- الذي خلق البحر بهذه الخصائص، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص؛ وجعل خصائص الضغط الجوي، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض، وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر. وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى: (ولتبتغوا من فضله) كالصيد للطعام وللزينة، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار. سخر الله للإنسان البحر والفلك، ليبتغي من فضل الله؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام، وعلى التسخير والاهتداء: (ولعلكم تشكرون).. وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق، وإلى الارتباط بذلك الأفق، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه.. إلى الله..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوَالِها من حيث إنها دلالات على الوحدانية، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيثُ كانت منافع للناس تقتضي أن يشكروا مقدِّرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم، ولذلك عُلق بفعليْ {سخر} في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله: {لكم}؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضاً مثلُ اختلاف الليل والنهار، وما أنزل الله من السماء من ماء، وتصريف الرياح، ولكن لُوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة، والفَطِنُ يَستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك. ومناسبة هذا الانتقال واضحة.
واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قَصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى: {هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء} [الروم: 40]، فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل.
{لتجري الفلك فيه} بَدل اشتمال من {لكم} لأن في قوله: {لكم} إجمالاً أريد تفصيله، فتعريف
{الفلك} تعريف الجنس، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضاً عن المضاف إليه من باب
{فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41].
وعطف عليه {ولتبتغوا من فضله} باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل.
وعطف {ولعلكم تشكرون} على قوله: {لتجري الفلك فيه} لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالاً، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله. وهذا مناط سَوق هذا الكلام، أي لعلكم تشكرون فكفرتم.
التسخير يعني التذليل وأن يكون المسخّر رَهْناً لخدمة المسخّر له... والتسخير تكليف الشيء تكليفاً قهرياً أنْ يكونَ في خدمة الخليفة وهو الإنسان، فالكون كله مُسخَّر له. يعني: يطيعه ويأتمر بأمره... وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أمر بالشكر على النعمة، فكلما رأيتَ مظهراً من مظاهر نعمة الله قُلِ الحمد لله واعترف لله بالفضل، لذلك علَّمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء الركوب للسُّفن أو غيرها، ومن هذا الدعاء:"سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا له مقرنين، وإنَّا إلى ربنا لمنقلبون".