تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقٗاۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13)

{ 13 - 17 } { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده ، بتبيين الحق من الباطل ، بما يُرِي عباده من آياته النفسية والآفاقية والقرآنية ، الدالة على كل مطلوب مقصود ، الموضحة للهدى من الضلال ، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق ، وهذا من أكبر نعمه على عباده ، حيث لم يُبْقِ الحق مشتبهًا ولا الصواب ملتبسًا ، بل نوَّع الدلالات ووضح الآيات ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر ، كانت الدلائل عليها أكثر وأيسر ، فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل ، بل أكبرها ، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية وتنوعت ، وضرب الله لها الأمثال وأكثر لها من الاستدلال ، ولهذا ذكرها في هذا الموضع ، ونبه على جملة من أدلتها فقال : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }

ولما ذكر أنه يُرِي عباده آياته ، نبه على آية عظيمة فقال : { وينزل لكم من السماء رزقا } أي : مطرًا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم ، وذلك يدل على أن النعم كلها منه ، فمنه نعم الدين ، وهي المسائل الدينية والأدلة عليها ، وما يتبع ذلك من العمل بها . والنعم الدنيوية كلها ، كالنعم الناشئة عن الغيث ، الذي تحيا به البلاد والعباد . وهذا يدل دلالة قاطعة أنه وحده هو المعبود ، الذي يتعين إخلاص الدين له ، كما أنه -وحده- المنعم .

{ وَمَا يَتَذَكَّرُ } بالآيات حين يذكر بها { إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } إلى الله تعالى ، بالإقبال على محبته وخشيته وطاعته والتضرع إليه ، فهذا الذي ينتفع بالآيات ، وتصير رحمة في حقه ، ويزداد بها بصيرة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقٗاۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13)

وفي ظل هذا المشهد يستطرد إلى شيء من صفة الله تناسب موقف الاستعلاء ويوجه المؤمنين في هذا المقام إلى التوجه إليه بالدعاء ، موحدين ، مخلصين له الدين كما يشير إلى الوحي للإنذار بيوم التلاقي والفصل والجزاء ، يوم يتفرد الله بالملك والقهر والاستعلاء :

( هو الذي يريكم آياته ، وينزل لكم من السماء رزقاً ، وما يتذكر إلا من ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون . رفيع الدرجات ، ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق . يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء . لمن الملك اليوم ? لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت . لا ظلم اليوم . إن الله سريع الحساب ) . .

وهو الذي يريكم آياته . . وآيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود . في المجالي الكبيرة من شمس وكواكب ، وليل ونهار ، ومطر وبرق ورعد . . وفي الدقائق الصغيرة من الذرة والخلية والورقة والزهرة . . وفي كل منها آية خارقة ، تتبدى عظمتها حين يحاول الإنسان أن يقلدها - بله أن ينشئها - وهيهات هيهات التقليد الكامل الدقيق ، لأصغر وأبسط ما أبدعته يد الله في هذا الوجود .

وينزل عليكم من السماء رزقاً . . عرف الناس منه المطر ، أصل الحياة في هذه الأرض ، وسبب الطعام والشراب . وغير المطر كثير يكشفه الناس يوماً بعد يوم . ومنه هذه الأشعة المحيية التي لولاها ما كانت حياة على هذا الكوكب الأرضي . ولعل من هذا الرزق تلك الرسالات المنزلة ، التي قادت خطى البشرية منذ طفولتها ونقلت أقدامها في الطريق المستقيم ، وهدتها إلى مناهج الحياة الموصولة بالله ، وناموسه القويم .

( وما يتذكر إلا من ينيب ) . . فالذي ينيب إلى ربه يتذكر نعمه ويتذكر فضله ويتذكر آياته التي ينساها غلاظ القلوب .

وعلى ذكر الإنابة وما تثيره في القلب من تذكر وتدبر يوجه الله المؤمنين ليدعوا الله وحده ويخلصوا له الدين ، غير عابئين بكره الكافرين :