التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزۡقٗاۚ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ} (13)

هذا استئناف ابتدائي إقبالٌ على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد أن انقضى وصف ما يلاقي المشركون من العذاب ، وما يدعون من دعاء لا يستجاب ، وقرينة ذلك قوله : { ولو كره الكافرون } [ غافر : 14 ] .

ومناسبة الانتقال هي وصفَا { العلي الكبير } [ غافر : 12 ] لأن جملة { يريكم آياته } تناسب وصف العلوّ ، وجملة { ينزل لكم من السماء رزقاً } تناسب وصف { الكبير } بمعنى الغَنِيّ المطلق .

والآيات : دلائل وجوده ووحدانيتِه . وهي المظاهر العظيمة التي تبدو للناس في هذا العالم كقوله : { هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً } [ الرعد : 12 ] وقوله : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ آل عمران : 190 ] . وتنزيل الرزق من السماء هو نزول المطر لأن المطر سبب الرزق وهو في نفسه آية أدمج معها امتنان ، ولذلك عُقب الأمران بقوله : { ومَا يَتَذَكَّرُ إلا مَن يُنيب } .

وصيغة المضارع في { يريكم } و { ينزل } تدل على أن المراد إراءة متجددة وتنزيل متجدد وإنما يكون ذلك في الدنيا ، فتعين أن الخطاب مستأنف مراد به المؤمنون وليس من بقية خطاب المشركين في جهنم ، ويزيد ذلك تأييداً قوله : { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } [ غافر : 14 ] .

( وعُدي فعلاً ( يرى ) و { ينزل } إلى ضمير المخاطبين وهم المؤمنون لأنهم الذين انتفعوا بالآيات فآمنوا وانتفعوا بالرزق فشكروا بالعمل بالطاعات فجُعل غيرهم بمنزلة غير المقصودين بالآيات لأنهم لم ينتفعوا بها كما قال تعالى : { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] فجَعل غير العالمين كمن لا يعقل ولا يفقه .

ولذلك ذيلت إراءة الآيات وإنزالُ الرزق لهم بقوله : { وما يتذكر إلا من ينيب } أي من آمن ونبذ الشرك لأن الشرك يصدّ أهله عن الإِنصاف وإعمال النظر في الأدلة .

والإِنابة : التوبة ، وفي صيغة المضارع إشارة إلى أن الإِنابة المحصلة للمطلوب هي الإِنابة المتجددة المتكررة ، وإذ قد كان المخاطبون منيبين إلى الله كان قوله : { وما يتذكر إلاّ من ينيب } دَالاً بدلالة الاقتضاء على أنهم رأوا الآيات واطمأنوا بها وأنهم عرفوا قدر النعمة وشكروها فكان بين الإِنابة وبين التذكر تلازم عادي ، ولذلك فجملة { وما يتذكر إلاّ من ينيب } تذييل .

وتقديم { لكم } على مفعول { يُنزل } وهو { رزقاً } لكمال الامتنان بأن جُعل تنزيل الرزق لأجل الناس ولو أخر المجرور لصار صفة ل { رِزْقاً } فلا يفيد أن التنزيل لأجل المخاطَبين بل يفيد أن الرزق صالح للمخاطبين وبين المعنيين بون بعيد ، فكان تقديم المجرور في الترتيب على مفعول الفعل على خلاف مقتضى الظاهر لأن حق المفعول أن يتقدم على غيره من متعلِّقات الفعل وإنما خولف الظاهر لهذه النكتة .

وجُعل تنزيل الرزق لأَجل المخاطبين وهم المؤمنون إشارة إلى أن الله أراد كرامتهم ابتداء وأن انتفاع غيرهم بالرزق انتفاع بالتبع لهم لأنهم الذين بمحل الرضى من الله تعالى .

وتُثار من هذه الآية مسألة الاختلاف بين الأشعرية مع الماتريدي ومع المعتزلة في أن الكافر منعَم عليه أوْ لا ؟ فعن الأشعري أن الكافر غير منعم عليه في الدنيا ولا في الدين ولا في الآخرة ، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والماتريدي : هو منعم عليه نعمةً دنيوية ، لا دينية ولا أُخروية ، وقالت المعتزلة : هم منعم عليه نعمةً دنيوية ودينية لا أخروية ، فأما الأشعري فلم يعتبر بظاهر الملاذ التي تحصل للكافر في الحياة فإنما ذلك إملاء واستدراج لأن مآلها العذاب المؤلم فلا تستحق اسم النعمة .

وأنا أقول : لو استُدل له بأنها حاصلة لهم تبعاً فهي لذائد وليست نعماً لأن النعمة لذة أريد منها نفع من وصلت إليه كما أشرتُ إليه آنفاً .

وأما الباقلاني فراعى ظاهر الملاذّ فلم يمنع أن تكون نعماً وإن كانت عواقبُها آلاماً ، وآياتُ القرآن شاهدة لقوله . وأما المعتزلة فزادوا فزعموا أن الكافر منعم عليه دِينَا ، وأرادوا بذلك أن الله مكَّن الكافر من نعمة القدرة على النظر المؤدي إلى معرفة الله وواجببِ صفاته . والذي استقر عليه رأي المحققين من المتكلمين أن هذا الخلاف لفظي لأنه غير ناظر إلى حقيقة حالة الكافر في الدنيا والدين ، وإنما نظر كل شِق من أهل الخلاف إلى ما حفّ بأحوال الكافر في تلك النعمة فرجع إلى الخلاف في الألفاظ المصطلح عليها ومدلولاتها لا في حقائق المقصود منها .