{ وَقَالُوا } أيضا تعنتا مبنيا على الجهل ، وعدم العلم بالمعقول . { لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي : هلا أنزل مع محمد ملك ، يعاونه ويساعده على ما هو عليه بزعمهم أنه بشر ، وأن رسالة الله ، لا تكون إلا على أيدي الملائكة .
قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده ، حيث أرسل إليهم بشرا منهم يكون الإيمان بما جاء به ، عن علم وبصيرة ، وغيب . { وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا } برسالتنا ، لكان الإيمان لا يصدر عن معرفة بالحق ، ولكان إيمانا بالشهادة ، الذي لا ينفع شيئا وحده ، هذا إن آمنوا ، والغالب أنهم لا يؤمنون بهذه الحالة ، فإذا لم يؤمنوا قضي الأمر بتعجيل الهلاك عليهم وعدم إنظارهم ، لأن هذه سنة الله ، فيمن طلب الآيات المقترحة فلم يؤمن بها ، فإرسال الرسول البشري إليهم بالآيات البينات ، التي يعلم الله أنها أصلح للعباد ، وأرفق بهم ، مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع ، فطلبُهم لإنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون ، ومع ذلك ، فالملك لو أنزل عليهم ، وأرسل ، لم يطيقوا التلقي عنه ، ولا احتملوا ذلك ، ولا أطاقته قواهم الفانية .
بعد ذلك يحكي نموذجا من اقتراحات المشركين ، التي يمليها التمحل والعناد ، كما يمليها الجهل وسوء التصور . . ذلك إذ يقترحون أن ينزل الله - سبحانه - على الرسول [ ص ] ملكا يصاحبه في تبليغ الدعوة ؛ ويصدقه في أنه مرسل من عند الله . . ثم يبين لهم ما في هذا الاقتراح من جهل بطبيعة الملائكة ، وبسنة الله في إرسالهم ، كما يبين لهم رحمة الله بهم في أن لا يستجيب لهم فيما يقترحون :
( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون . ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ، وللبسنا عليهم ما يلبسون ) . .
وهذا الاقتراح الذي كان المشركون يقترحونه ؛ والذي اقترحه من قبلهم أقوام كثيرون على رسلهم - كما يحكي القرآن الكريم في قصصهم - والرد القرآني عليه في هذا الموضع . . هذا وذاك يثيران جملة حقائق نلم بها هنا بقدر الإمكان :
الحقيقة الأولى : أن أولئك المشركين من العرب لم يكونوا يجحدون الله ؛ ولكنهم كانوا يريدون برهانا على ان الرسول [ ص ] مرسل من عنده ؛ وأن هذا الكتاب الذي يتلوه عليه7م منزل من عند الله حقا . ويقترحون برهانا معينا : هو أن ينزل الله عليه ملكًا يصاحبه في الدعوة ويصدق دعواه . . ولم يكن هذا إلا اقتراحا من اقتراحات كثيرة من مثله ، ورد ذكرها في القرآن في مواضع منه شتى . وذلك كالذي ورد في سورة الإسراء ، وهو يتضمن هذا الاقتراح ، واقتراحات من نوعه تدل كلها على التعنت الذي وصفته الآية السابقة ، كما تدل على الجهل بكثير من الحقائق الكونية وكثير من القيم الحقيقية : ( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه . قل : سبحان ربي ! هل كنت إلا بشرا رسولا ؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا : أبعث الله بشرا رسولا ؟ قل : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولًا ) . . . [ الإسراء : 89-95 ] .
ومن مثل هذه الاقتراحات يتبين التعنت كما تتبين الجهالة . . وإلا فقد كان لهم من خلق رسول الله [ ص ] الذي يعرفونه جيدا بالخبرة الطويلة ؛ ما يدلهم على صدقة وأمانته وهم كانوا يلقبونه الأمين ، ويودعون لديه أماناتهم حتى وهم معه على أشد الخلاف ؛ وقد هاجر [ ص ] وترك ابن عمه عليا - رضي الله عنه - يرد إلى قريش ودائعهم التي كانت ما تزال عنده ؛ وهم معه على الخلاف الذي يدبرون معه قتله ! وكذلك كان صدقه عندهم مستيقنا كأمانته ؛ فإنه لما دعاهم أول مرة دعوة جماعية جهرية على الصفا - حين أمره ربه بذلك - وسألهم : إن كانوا يصدقونه لو أنبأهم بنبأ ، أجابوه كلهم بأنه عندهم مصدق . . فلو كانوا يريدون أن يعلموا صدقه لقد كان لهم في ماضيه برهان ، ولقد كانوا يعلمون : إنه لصادق . . وسيأتي في سياق السورة خبر الله الصادق لنبيه : أنهم لا يكذبونه : ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون . فإنهم لا يكذبونك . ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) . . فهي الرغبة في الإنكار والإعراض ؛ وهو العناد والاستكبار عن الحق . وليس أنهم يشكون في صدقه [ ص ] !
ثم لقد كان لهم في القرآن ذاته برهان أصدق من هذه البراهين المادية التي يطلبون . فإن هذا القرآن شاهد بذاته ، بتعبيره ثم بمحتوى هذا التعبير ، على أنه من عند الله . . وهم لم يكونوا يجحدون الله . . وهم - على وجه التأكيد - كانوا يحسون ذلك ويعرفونه . . كانوا يعرفون بحسهم اللغوي الأدبي الفني مدى الطاقة البشرية ؛ ويعرفون أن هذا القرآن فوق هذا المدى - وهذا الإحساس يعرفه من يمارس فن القول ويتذوقه أكثر مما يعرفه من ليست له هذه الممارسة . وكل من مارس فن القول يدرك إدراكا واضحا أن هذا القرآن فوق ما يملك البشر أن يبلغوا ؛ لا ينكر هذا إلا معاند يجد الحق في نفسه ثم يخفيه ! كما أن المحتوى القرآني من التصور الاعتقاديوالمنهج الذي يتخذه لتقرير هذا الاعتقاد في الإدراك البشري ، ونوع المؤثرات واللمسات الموحية . . كلها غير معهود في طبيعة التصورات البشرية والمناهج البشرية ، والطرائق البشرية في الإداء النفسي والتعبيري أيضا . . والعرب لم يكن يخفي عليهم الشعور بهذا في قرارة نفوسهم . وأقوالهم ذاتها وأحوالهم تقرر أنهم ما كانوا يشكون في أن هذا القرآن من عند الله . .
وهكذا يبدو أن هذه الاقتراحات لم تكن طلبا للبرهان ؛ إنما كانت وسيلة من وسائل الإعنات ؛ وأسلوبا من أساليب التعنت ؛ وخطة للمماحكة والمعاندة ؛ وأنهم كانوا كما قال الله سبحانه عنهم في الآية السابقة : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ، لقال الذين كفروا : إن هذا إلا سحر مبين ) !
والحقيقة الثانية : أن العرب كانوا يعرفون الملائكة ؛ وكانوا يطلبون أن ينزل الله على رسوله ملكا يدعو معه ويصدقه . . ولكنهم لم يكونوا يعرفون طبيعة هذا الخلق التي لا يعلمها إلا الله ؛ وكانوا يخبطون في التيه بلا دليل في تصور هذا الخلق ؛ وفي نوع علاقته بربه ؛ ونوع علاقته بالأرض وأهلها . . وقد حكى القرآن الكريم كثيرا من ضلالات العرب وأساطير الوثنية حول الملائكة ؛ وصححها كلها لهم ليستقيم تصور من يهتدي بهذا الدين منهم ؛ وتصح معرفتهم لهذا الكون وما يعمره من خلائق . وكان الإسلام - من هذا الجانب - منهجا لتقويم العقل والشعور ، كما كان منهجا لتقويم القلب والضمير ، ومنهجا لتقويم الأوضاع والأحوال سواء . .
وحكى القرآن الكريم من أضاليل العرب ومن جهالاتهم في جاهليتهم ، أنهم كانوا يظنون أن الملائكة بنات الله ! سبحانه وتعالى عما يصفون ! وأنهم - من ثم - لهم شفاعة عند الله لا ترد ! والراجح أن بعض كبار الأصنام كانت رموزا للملائكة ! كما حكى قولهم هذا في طلبهم أن ينزل الله على رسوله ملكا ليصدقه في دعواه . .
وقد صحح لهم القرآن ضلالتهم الأولى في مواضع منه شتى . كالذي جاء في سورة النجم :
أفرأيتم اللات والعزى ؟ ومناة الثالثة الأخرى ؟ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى ! إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ، إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ولقد جاءهم من ربهم الهدى . أم للإنسان ما تمنى ؟ فلله الآخرة والأولى . وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى . إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى . وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا .
كما صحح لهم ضلالتهم الثانية في تصورهم لطبيعة الملائكة في هاتين الآيتين في هذه السورة وفي مواضع أخرى كثيرة :
( وقالوا : لولا أنزل عليه ملك ! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ) . .
وهذا جانب من التعريف بهذا الخلق من عباد الله . . إنهم يقترحون أن ينزل الله ملكا . ولكن سنة الله أن ينزل الملائكة - حين ينزلون إلى الأرض على قوم كذبوا برسولهم - أن ينزلوا للتدمير عليهم ، وتحقيق أمر الله فيهم بالهلاك والدمار . ولو أن الله استجاب للمشركين من العرب فأنزل ملكا ، لقضي الأمر ، وتم التدمير ، ولم ينظروا إلى مهلة بعد هذا التنزيل ! فهل هذا ما يريدون وما يقترحون ؟ وهلا يستشعرون رحمة الله في عدم إجابتهم لما يقترحون لأنفسهم من الهلاك المبين ؟ ! . . هكذا يقفهم السياق وجها لوجه أمام رحمة الله بهم وحلمه عليهم ؛ وأمام جهلهم بمصلحة أنفسهم ، وجهلهم بسنة الله في تنزيل الملائكة . . وهم بهذا الجهل الذي يكاد يدمر عليهم حياتهم ، يرفضون الهدى ويرفضون الرحمة ويتعنتون في طلب الدليل !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.