و { ذَلِكَ } الذي بين لكم من عظمته وصفاته ، ما بيَّن { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } في ذاته وفي صفاته ، ودينه حق ، ورسله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، وعبادته هي الحق .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } في ذاته وصفاته ، فلولا إيجاد اللّه له لما وجد ، ولولا إمداده لَمَا بَقِيَ ، فإذا كان باطلا ، كانت عبادته أبطل وأبطل .
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته ، الذي علت صفاته ، أن يقاس بها صفات أحد من الخلق ، وعلا على الخلق فقهرهم { الْكَبِيرُ } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وغير ذلك من عظيم قُدرته ، إنما فعله بأنه الله حقا ، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به ، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه ، ولا تصلح الألوهة إلاّ لمن فعل ذلك بقُدرته . وقوله : وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ يقول تعالى ذكره : وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ ، فيبيد ويفني وأنّ اللّهَ هُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ يقول تعالى ذكره : وبأن الله هو العليّ ، يقول : ذو العلوّ على كلّ شيء ، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد ، الكبير الذي كل شيء دونه ، فله متصاغر .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق } الإشارة ب { ذلك } إلى هذه العبرة وما جرى مجراها ، ومعنى { هو الحق } أي صفة الألوهية له حق ، فيحسن في القول تقدير ذو ، وذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر منه قول الشاعر :
فإنما هي إقبال وإدبار{[9387]} . . . وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق ، وقوله { وأن ما تدعون من دونه } يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب { الباطل } على نحو ما قدمناه في { الحق } ، ويصح أن تكون { ما } مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به ، وقرأ الجمهور «تدعون » بالتاء من فوق ، وقرأ «يدعون » بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو ، وباقي الآية بين .
كاف الخطاب المتصلُ باسم الإشارة موجه إلى غير معين ، والمقصود به المشركون بقرينة قوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل } بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم . والمشار إليه هو المذكور آنفاً وهو الإيلاج والتسخير . وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته .
والمعنى : أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مُسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية ، فالباء للسببية ، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة . وضمير الفصل مفيد للاختصاص ، أي : هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يُدّعى إلهية غيره تعالى .
و { الحق } : هنا بمعنى الثابت ، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل ، } والمعنى : لما كان ذلك الصنع البديع مسبباً عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضاً دليلاً على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب . والتعريف في { الحق } و { الباطل } تعريف الجنس . وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل . وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج ( 73 ) لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم .
والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في { بأن الله هو الحق } باء السببية أن يكون قوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل } عطفاً على الخبر وهو مجموع { بأن الله . } فالتقدير : ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل . ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حُذف قبل { أنّ } وهو حرف ( على ) أي : ذلك دال . وهذا كما قدر حرف ( عن ) في قوله تعالى : { وترغبون أن تنكِحوهن } [ النساء : 127 ] ولا يكون عطفاً على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر ، أو تقدر لام العلة ، أي ذلك ، لأن ما تدعونه باطل ؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين . وقوله { وأن الله هو العلي الكبير } واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنَّ ما ذُكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية ، ودال على أن ما يدعونه باطل ، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم . وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم .
والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة ، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفاً مستقراً بل قال الرضِيُّ : إنها لا تكون إلاّ كذلك ، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال :
أي : حالة كوني ملابساً حمد الله ، أي : غير ساخط من قضائه ، ويقال : أنت بخير النظرين ، أي : مستقر . فالتقدير : ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيَّة إلهية الله تعالى ، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء ، أي ملابس لكون الله إلهاً حقاً ، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير . والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف ، ويزداد وقوع جملة { ذلك بأن الله هو الحق } إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحاً .
وضمير الفصل في قوله { وأن الله هو العلي الكبير } للاختصاص كما تقدم في قوله : { إن الله هو الغني الحميد } [ لقمان : 26 ] .
و { العلي } : صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف .
والكبير : وصف مشتق من الكِبَر المجازي وهو عظمة الشأن . وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج ( 63 ) مع زيادة ضمير الفصل في قوله { وأن ما تدعون من دونه هو الباطل } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.