والقول في { فأنت عنه تلهى } كالقول في : { فأنت له تصدى } [ عبس : 6 ] .
والعبرة من هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيئه صلى الله عليه وسلم علماً عظيماً من الحكمة النبوية ، ورفعَ درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاةِ الأمم ، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحيَ صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها ، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم ، وأنّ ليس الإِصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبهُ قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القَويّ على الضعيف مِما فيه صفة الصلاح ، بل شأن مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً بل الأمر يختلف باختلاف الناس . وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة : إن المجتهد إذا لاح له دليل : « يبحث عن المعارض » والقاعدة القائلة : « إن لله تعالى حكماً قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر واحد » .
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأنه مستطاعهم فإن غوْره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي ، فبحثُه عن الحكم أوسع مدىً من مدى أبحاث عموم المجتهدين ، وتنقيبه على المعارض أعمق غَوراً من تناوشهم ، لئلا يفوت سيدَ المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفاً ، ما لم يكن إعماله يُبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يُوحَ إليه فيه .
فالتزكية الحق هي المِحْور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني ، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته ، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزكَ بالإِيمان .
وفي حاليهما حالان آخران سرُّهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيئه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما ، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإِيمان حين لاح من لِين نفْسه لسماع القرآن ما أطْمَعَ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقتربَ من الإِيمان فمحَّض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإِيمان أعظم غرض بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله ، فالاشتغال به يَبْدُو أهمّ وأرجحَ من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص ، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
غير أن وراء ذلك الظاهر حالاً آخر كامناً عَلِمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوححِ لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير ، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئاً . وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبيء صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحانَ حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغُر ما أظهره من اللين مصانعةً أو حياءً من المكابرة ، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته . وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها ، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص ، بيد أن الكافر صاحبَ هذه القضية تنبىء دخيلتُه بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله ، وبذلك تَعطل الانتفاعُ بها عموماً وخصوصاً وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعاً لخاصة نفسه ولا يخلو من عَود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها .
وقد حصل من هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية ، وليس الاهتداء مقتصراً على حصول الإِيمان مراتبَ وميادينَ لسبق همم النفوس لا يُغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإِثمار ، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإِيمان .
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى . فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع ، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول } [ محمد : 30 ] .
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإِرشاد فيها على ما يرجى من طيب تُربتِهَا ليخرج منها نبات نافع للخاص وللعامة .
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحَه لا يُرجى منه صلاح ، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحاً تفيد المبادرةُ به ، لأنه في حالة تلهفه على التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعداداً منه في حين آخر .
فهذه الحادثة منوال ينسج عليه الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا ، وأن القرائن قد تَستُر الحقائق .
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يُوحَ إليه فيه ، وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة . وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم ووقوعه ، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر ، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى ، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطىء بحسب ما نصبه الله من الأدلة ، ولكنه قد يخالف ما في علم الله ، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر .
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل .
وفي قوله تعالى : { وما يدريك لعله يزكى } [ عبس : 3 ] إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه ، والمعنى : لعله يزّكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشداً حريصاً ، وهذه حالة خفية .
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله : { وما عليك ألا يزكى } [ عبس : 7 ] إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإِقبال على استجابة المؤمن المسترشد .
فإن قال قائل : فلماذا لم يُعلِم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم .
قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبيُّن غفلة ، أو إشعارٍ بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبيء صلى الله عليه وسلم مزية كِلا المقامين : مقام الاجتهاد ، ومقام الإِفادة .
وحكمة ذلك كله أن يُعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من عليِّ الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها .
ونظير هذا ما ضَربه الله لموسى عليه السلام من المثَل في ملاقاة الخضر ، وما جرى من المحاورة بينهما ، وقول الخضر لموسى : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } [ الكهف : 68 ] ثم قوله له : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح : { يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } [ هود : 46 ] وقوله لإبراهيم : { لا ينال عهدي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلاً وتفصيلاً ، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإِعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ، ومن العُبوس له ، والتولّي عنه ، ومن التصدّي القوي لدعوة المشرك والإِقبال عليه .
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتُه من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم : « مرحباً بمن عاتبني ربي لأجله » إنما هو عتاب على العُبوس والتولّي ، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوة ، وتأخير إرشاد ، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإِرشاد لا يستدعي عتاباً إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لأن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاهُ إرشادَاننِ لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر ، هما : إرشاد كافر إلى الإِسلام عساه أن يسلم ، وإرشاد مؤمن إلى شُعَب الإِسلام عساه أن يزداد تزكية .
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيماناً وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يُنَاكِد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام .
ومن القواعد المستقرَاةِ من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، ونفيُ الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر ، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه . وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة : { فاتقوا اللَّه ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] وهو القائل : « إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما اقتطع له قطعة من نار » وهو القائل : « أمرت أن أحكم بالظاهر واللَّه يتولى السرائر » وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد . فلا قِبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها ، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاءَ نفس وإشراقَ قلب لا يتهيآن له في كل وقت .
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيئه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيباً عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن .
وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهرَ اللَّهُ فيها غيْبَ علمه إلا لإِظهار مزية مؤمن راسخ الإِيمان وتسجيل كفر مشرك لا يُرجى منه الإِيمان ، مع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عَلِمه الله من حسن أدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين . m فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يَستصغر أمثال ابن أم مكتوم ، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصَةً من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعاً بين المعاتبة والتعليم ، على سنن هدي القرآن في المناسبات .