{ 22-24 } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
هذه الآيات الكريمات قد اشتملت على كثير من أسماء الله الحسنى وأوصافه العلى ، عظيمة الشأن ، وبديعة البرهان ، فأخبر أنه الله المألوه المعبود ، الذي لا إله إلا هو ، وذلك لكماله العظيم ، وإحسانه الشامل ، وتدبيره العام ، وكل إله سواه{[1048]} فإنه باطل لا يستحق من العبادة مثقال ذرة ، لأنه فقير عاجز ناقص ، لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا ، ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل ، لما غاب عن الخلق وما يشاهدونه ، وبعموم رحمته التي وسعت كل شيء ووصلت إلى كل حي .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بالثناء على ذاته - تعالى - وببيان بعض أسمائه الحسنى فقال - تعالى - : { هُوَ الله . . . } .
قال الجمل : لما وصف - تعالى - القرآن العظيم ، ومعلوم أن عظم الصفة تابع لعظم الموصوف ، أتبع ذلك بوصف عظمته - تعالى - فقال : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أى : هو الله الذى وجوده من ذاته ، فلا عدم له بوجه من الوجوه ، فلا شىء يستحق الوصف بهذا غيره ، لأنه هو الموجود أزلا وأبدا ، فهو حاضر فى كل ضمير ، غائب بعظمته عن كل حس ، فلذلك تصدع الجبل من خشيته .
أي : هو المعبود الذى لا تنبغى العبادة والألوهية إلا له ، الذى لا إله إلا هو ، فإنه لا مجانس له ، ولا يليق ولا يصح ، ولا يتصور ، أن يكافئه أو يدانيه شىء . .
وقوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } أي : هو - سبحانه - العليم علما تاما بما غاب عن أذهان الخلائق وعقولهم ، وبما هو حاضر ومشاهد أمام أعينهم .
فالمراد بالغيب : كل ما غاب عن إحساس الناس وعن مداركهم . . .
والمراد بالشهادة : ما يشاهدونه بعيونهم ، ويدركونه بعقولهم .
والتعريف فيهما للاستغراق الحقيقى ، لأن الله - تعالى - لا يخفى عليه شىء فى هذا الكون .
وقوله - تعالى - : { هُوَ الرحمن الرحيم } أي : هو العظيم الرحمة الدائمها ، لأن لفظ { الرحمن } صيغة مبالغة لكثرة الشىء وعظمته ، ولفظ { الرحيم } صيغة تدل على الدوام والاستمرار .
لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهرِ ، أو صفاته العلية . وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته .
وكان مما حوته السورة الاعتبارُ بعظيم قدرة الله إذْ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرَهم على بني النضير ذلك النصرَ الخارق للعادة ، وذِكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقُّوا الله ورسوله وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين نصروا الدّين ، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء ، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم ، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير ، والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته ، عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته . وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته ، وزيادةً في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته ، ولذلك ذُكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ مَا يليق به منها .
وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم به أصنامهم . وسنذكر مراجع هذه الأسماء إلى ما اشتملت عليه السورة فيما يأتي .
فضمير الغيبة الواقع في أول الجملة عائد إلى اسم الجلالة في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } [ الحشر : 18 ] ، و { هو } مبتدأ واسم الجلالة خبر عنه و { الذي } صفة لاسم الجلالة .
وكان مقتضى الظاهر الاقتصار على الضمير دون ذكر اسم الجلالة لأن المقصود الإِخبار عن الضمير ب { الذي لا إله إلا هو } وبما بعد ذلك من الصفات العلية ، فالجمع بين الضمير وما يساوي معادَة اعتبار بأن اسم الجلالة يجمع صفات الكمال لأن أصله الإله ومدلول الإله يقتضي جميع صفات الكمال .
ويجوز أن يجعل الضمير ضمير الشأن ويكون الكلام استئنافاً قُصد منه تعليم المسلمين هذه الصفات ليتبَصَّرُوا فيها وللردّ على المشركين إشراكهم بصاحب هذه الصفات معه أصنافاً ليس لواحد منها شيء من مثل هذه الصفات ، ولذلك ختمت طائفة منها بجملة { سبحان الله عما يشركون } [ الحشر : 23 ] ، لتكون ختاماً لهذه السورة الجليلة التي تضمنت منة عظيمة ، وهي منة الفتح الواقع والفتح الميسّر في المستقبل ، لا جرم أنه حقيق بأن يعرفوا جلائل صفاته التي لتعلقاتها آثار في الأحوال الحاصلة والتي ستحصل من هذه الفتوح وليعلمَ المشركون والكافرون من اليهود أنهم ما تعاقبت هزائمهم إلاّ من جرّاء كفرهم . ولما كان شأن هذه الصفات عظيماً ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن ، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و { الذي لا إله إلا هو } خبر .
والجملة خبر عن ضمير الشأن فيكون اسم الجلالة مبتدأ و { الذي لا إله إلا هو } خبراً والجملة خبراً عن ضمير الشأن .
وابتدىء في هذه الصفات العلية بصفة الوحدانية وهي مدلول { الذي لا إله إلا هو } وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات . ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي ، وفاتحة آل عمران .
وثني بصفة { عالم الغيب } لأنها الصفة التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جميع الصفات إذ لا تتقوّم حقيقة العلم الواجب إلا بالصفات السَّلبية ، وإذْ هو يقتضي الصفات المعنوية ، وإنما ذكر من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه الذي فارق به علمُ الله تعالى علمَ غيره ، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس تَوهُّم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في { الغيب والشهادة } للاستغراق . أي كل غيب وشهادة ، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره . وهو علم الغيب والشهادة ، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم . فالمقصود فيهما بمعنى اسم الفاعل ، أي عالم ما ظهر للناس وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه .
والتعريف في { الغيب والشهادة } للاستغراق الحقيقي .
وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصَروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل ، أمّا ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه . قال تعالى : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم } إلى قوله : { من الخاسرين } [ فصلت : 22 - 23 ] .
وضمير { هو الرحمن الرحيم } ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً . فمن ذلك الجُزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه » وقد تقدم الكلام على { الرحمن الرحيم } في سورة [ الفاتحة : 3 ] .
ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه ، فهو يرحم المحْتاجين إلى رحمته ويُهْمِل المعاندين إلى عقاب الآخرة ، فهو رحمان بهم في الدنيا ، وقد كثر إتباع اسم الجلالة بصفتي الرحمن الرحيم في القرآن كما في الفاتحة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فوحد الرب نفسه، فقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب} يعني غيب ما كان وما يكون.
{والشهادة} يعني شهادته بالحق في كل شيء.
{هو الرحمن الرحيم} اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر.
فلما ذكر {الرحمن الرحيم}، قال مشركون العرب: ما نعرف الرحمن الرحيم إنما اسمه الله. فأراد الله تعالى أن يخبرهم أن له أسماء كثيرة، فقال: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} اسم الرب، تعالى، هو الله وتفسير الله: اسم الربوبية القاهر لخلقه وسائر أسمائه على فعاله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الذي يتصدع من خشيته الجبل أيها الناس، هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له، عالم غيب السموات والأرض، وشاهد ما فيهما مما يرى ويحسّ.
"هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ" يقول: هو رحمن الدنيا والآخرة، رحيم بأهل الإيمان به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{عالم الغيب والشهادة} قيل فيه بوجوه ثلاثة:
أحدها: أنه عالم بما غاب عن الخلق وبما شهدوا.
والثالث: أنه عليم بما قد كان وبكيفيته أن كيف يكون إذا كان.
{هو الرحمن الرحيم} فيها اسمان مشتقان من الرحمة. وفي هذه الآية بيان وجوه أربعة:
أحدها: فيه بيان التوحيد، وهو قوله تعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو} اسم المعبود أن كل معبود دونه باطل.
والثاني: أن فيه تنبيها وتحذيرا بأن يتذكر الإنسان في جميع أحواله اطلاع الله تعالى عليه وعلمه فيه، وذلك من قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة}.
والثالث: فيه ترغيب في رحمته، وإخبار لهم أن كل نعمة لهم في الدنيا والآخرة من الله تعالى؛ إذ في قوله عز وجل {هو الرحمن الرحيم}.
والرابع ما ذكرنا في قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ...}
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} وهي ما علموه وشاهدوه، وقال الحسن: يعني السرّ والعلانية...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{هو الله الذي لا إله إلا هو} كان جابر بن زيد يرى أن اسم الله الأعظم هو الله، لمكان هذه الآية.
{عالم الغيب والشهادة} فيه أربعة أقاويل:
الثالث: عالم ما يدرك وما لا يدرك من الحياة والموت والأجل والرزق.
الرابع: عالم بالآخرة والدنيا، قاله سهل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{عالم الغيب والشهادة} ففي الوصف بها بين كونه عالما بجميع المعلومات، لأنها لا تعدو هذين القسمين.
وقوله: {هو الرحمن} يعني المنعم على جميع خلقه.
{الرحيم} بالمؤمنين، ولا يوصف بالرحمن سوى الله تعالى، وأما الرحيم، فإنه يوصف به غيره تعالى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما قال تعالى: {من خشية الله} [الحشر: 21] جاء بالأوصاف التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية،...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وتقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به...
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{هو الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحة، ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه، وقيل إن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم، ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر، وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال الراغب: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفرداً لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر،، فيشمل كل غيب واجباً كان أو ممكناً موجوداً أو معدوماً أو ممتنعاً لم يتعلق به علم مخلوق.
وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوماً له تعالى كان كل شهادة معلوماً له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل: {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]،
وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة، وقيل: لتقدمه على الشهادة، فإن كل شهادة كان غيباً، وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب، وصاحب القيل الأخير يقول: إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{هو الرحمن الرحيم} أي المنعم بالنعم العامة والخاصة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيرا تجيء تلك التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى؛ وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله، ينطلق بها لسانه وتتجاوب بها أرجاؤه؛ وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود وفي حركته وظواهره، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ، وأثر في حياة البشر ملموس. فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات. فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء. وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود، وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده. فتتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدأ الخلق إلى منتهاه. ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء. وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله... فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور. ومن ثم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية؛ ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقب من الله المراقب لله، الذي لا يعيش وحده، ولو كان في خلوة أو مناجاة! ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام! فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح. ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة. فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم. ولا يريد الشر بهم بل يحب الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهرِ، أو صفاته العلية. وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته. وكان مما حوته السورة الاعتبارُ بعظيم قدرة الله إذْ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرَهم على بني النضير ذلك النصرَ الخارق للعادة، وذِكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقُّوا الله ورسوله وقوبل ذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين نصروا الدّين، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليوم الجزاء، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير، والمعرّف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته، عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته. وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادةً في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته، ولذلك ذُكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ مَا يليق به منها. وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم به أصنامهم. ولما كان شأن هذه الصفات عظيماً ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و {الذي لا إله إلا هو} خبر. وابتدئ في هذه الصفات العلية بصفة الوحدانية وهي مدلول {الذي لا إله إلا هو} وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات. ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي، وفاتحة آل عمران. وثني بصفة {عالم الغيب} لأنها الصفة التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جميع الصفات وإنما ذكر من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه الذي فارق به علمُ الله تعالى علمَ غيره، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس تَوهُّم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في {الغيب والشهادة} للاستغراق. أي كل غيب وشهادة، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره. وهو علم الغيب والشهادة، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم. فالمقصود فيهما بمعنى اسم الفاعل، أي عالم ما ظهر للناس وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه. والتعريف في {الغيب والشهادة} للاستغراق الحقيقي. وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصَروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل، أمّا ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه. قال تعالى: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم} إلى قوله: {من الخاسرين} [فصلت: 22 -23]. وضمير {هو الرحمن الرحيم} ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء} [الأعراف: 156]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم « جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجُزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه» وقد تقدم الكلام على {الرحمن الرحيم} في سورة [الفاتحة: 3]. ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه، فهو يرحم المحْتاجين إلى رحمته ويُهْمِل المعاندين إلى عقاب الآخرة، فهو رحمان بهم في الدنيا، وقد كثر إتباع اسم الجلالة بصفتي الرحمن الرحيم في القرآن كما في الفاتحة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وختمت سورة "الحشر " بعقد نفيس من أسماء الله الحسنى يذكر المؤمنين بجملة من مظاهر ربوبيته، وآثار ألوهيته، في الآفاق وفي أنفسهم ثم يكون " مسك الختام " تسبيحا لله وتنزيها، على لسان جميع المخلوقات في الأرض وفي السماوات، وكما ابتدأت سورة " الحشر " هكذا: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم1}، تنتهي بنفس المعنى هكذا: {يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم24}
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات اللاحقة تستعرض قسماً مهمّاً من صفات جمال وجلال الله سبحانه، التي لكلّ واحدة منها الأثر العميق في تربية النفوس وتهذيب القلوب. وتحوي الآيات القرآنية الثلاثة خمسة عشر وصفاً لله سبحانه، أو بتعبير آخر فإنّ ثماني عشرة صفة من صفاته العظيمة تذكرها ثلاث آيات، وكلّ منها تتعلّق ببيان التوحيد الإلهي والاسم المقدّس، وتوضّح للإنسان طريق الهداية إلى العالم النوراني لأسماء وصفات الحقّ سبحانه
هنا وقبل كلّ شيء يؤكّد على مسألة التوحيد، التي هي أصل لجميع صفات الجمال والجلال، وهي الأصل والأساس في المعرفة الإلهية، ثمّ يذكر علمه بالنسبة للغيب والشهود. فلا مكان إذن خارج حدود علمه وحضوره، قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو}. والتوجّه بهذا الفهم نحو الذات الإلهية يؤدّي بالإنسان إلى الإيمان بأنّ الله حاضر وناظر في كلّ مكان، وعندئذ يتسلّح بالتقوى، ثمّ يعتمد على رحمته العامّة التي تشمل جميع الخلائق: (الرحمن) ورحمته الخاصّة التي تخصّ المؤمنين، (والرحيم) لتعطي للإنسان أملا، ولتعينه في طريق بناء نفسه والتكامل بأخلاقه وسلوكه بالسير نحو الله، لأنّ هذه المرحلة الحياة الدنيا لا يمكن للإنسان أن يجتازها بغير لطفه، لأنّها ظلمات وخطر وضياع. وبهذا العرض بالإضافة إلى صفة التوحيد فقد بيّنت الآية الكريمة ثلاثة من صفاته العظيمة، التي كلّ منها تلهمنا نوعاً من المعرفة والخشية لله سبحانه.