ثم وصف - سبحانه - الأوثان التى يعبدها المشركون من دونه ، بثلاثة أوصاف تجعلها بمعزل عن النفع ، فضلا عن استحقاقها للعبادة ، فقال - تعالى - { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .
فوصفها - أولا - بالعجز التام ، فقال - تعالى - : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً . . } .
أى : وهذه الآلهة التى تعبدونها من دون الله - تعالى - لا تخلق شيئا من المخلوقات مهما صغرت ، بل هم يخلقون بأيديكم ، فأنتم الذين تنحتون الأصنام . كما قال - سبحانه - حكاية عن إبراهيم - عليه السلام - الذى قال لقومه على سبيل التهكم بهم : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وإذا كان الأمر كذلك فكيف تعبدون شيئا أنتم تصنعونه بأيديكم ، أو هو مفتقر إلى من يوجده ؟ !
وهذه الآية الكريمة أصرح فى إثبات العجز للمعبودات الباطلة من سابقتها التى تقول : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ . . } لأن الآية السابقة نفت عن المعبودات الباطلة أنها تخلق شيئا ، أما هذه الآية التى معنا فنفت عنهم ذلك ، وأثبتت أنهم مخلوقون لغيرهم وهو الله - عز وجل - ، أو أن الناس يصنعونهم عن طريق النحت والتصوير ، فهم أعجز من عبدتهم ، وعليه فلا تكرار بين الآيتين .
وأما الصفة الثانية لتلك الأصنام فهى قوله - تعالى - { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } .
أى : هؤلاء المعبودون من دون الله - تعالى - ، هم أموات لا أثر للحياة فيهم ، فهم لا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يغنون عن عابديهم شيئا ، فقد دلت هذه الصفة على فقدانهم للحياة فقدانا تاما .
وجملة { غير أحياء } جئ بها لتأكيد موتهم ، وللدلالة على عراقة وصفهم بالموت ، حيث إنه لا توجد شائبة للحياة فيهم ، ولم يكونوا أحياء - كعابديهم - ثم ماتوا ، بل هم أموات أصلا . أو جئ بها على سبيل التأسيس ، لأن بعض مالا حياة فيه من المخلوقات ، قد تدركه الحياة فيما بعد ، كالنطفة التى يخلق الله - تعالى - منها حياة ، أما هذه الأصنام فلا يعقب موتها حياة ، وهذا أتم فى نقصها ، وفى جهالة عابديها .
وأما الصفة الثالثة لتلك الأصنام فهى قوله - تعالى - : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .
ولفظ { أيان } ظرف زمان متضمن معنى متى .
وهذه الصفة تدل على جهلهم المطبق ، وعدم إحساسهم بشئ .
أى : أن من صفات هذه المعبودات الباطلة ، أنها لا تدرى متى يبعثها الله - تعالى - لتكون وقودا للنار .
وبعضهم يجعل الضمير فى { يشعرون } يعود على الأصنام ، وفى { يبعثون } يعود على العابدين لها ، فيكون المعنى : وما تدرى هذه الأصنام التى تعبد من دون الله - تعالى - متى تبعث عبدتها للحساب يوم القيامة .
قال صاحب فتح القدير ما ملخصه : قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الضمير فى { يشعرون } للآلهة وفى { يبعثون } للكفار الذين يعبدون الأصنام .
والمعنى : وما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار ، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم ، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة . فضلا عن الأمور التى لا يعلمها إلا الله - سبحانه - .
ويجوز أن يكون الضمير فى الفعلين للآلهة . أى : وما تشعر هذه الأصنام أيان تبعث . ويدل على ذلك قوله تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ . . }
ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها{[16381]} من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون ، كما قال الخليل : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 ، 96 ] .
{ والذين تدعون من دون الله } أي والآلهة الذين تعبدونهم من دونه . وقرأ أبو بكر " يدعون " بالياء . وقرأ حفص ثلاثتها بالياء . { لا يخلقون شيئا } لما نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق بين أنهم لا يخلقون شيئا لينتج أنهم لا يشاركونه ، ثم أكد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافى الألوهية فقال : { وهم يُخلقون } لأنهم ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق ، والإله ينبغي أن يكون واجب الوجود .
عطف على جملة { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ سورة النحل : 17 ] وجملة { والله يعلم ما تسرون } [ سورة النحل : 19 ] .
وما صدْق { الذين } الأصنامُ . وظاهر أن الخطاب هنا متمحّض للمشركين وهم بعض المخاطبين في الضمائر السابقة .
والمقصود من هذه الجملة التصريح بما استفيد ضمناً مما قبلها وهو نفي الخالقية ونفي العلم عن الأصنام .
فالخبر الأول وهو جملة { لا يخلقون شيئاً } استفيد من جملة { أفمن يخلق كمن لا يخلق } [ سورة النحل : 17 ] وعطف { وهم يخلقون } ارتقاء في الاستدلال على انتفاء إلهيتها .
والخبر الثاني وهو جملة { أموات غير أحياء } تصريح بما استفيد من جملة { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } [ سورة النحل : 19 ] بطريقة نفي الشيء بنفي ملزومه . وهي طريقة الكناية التي هي كذكر الشيء بدليله . فنفي الحياة عن الأصنام في قوله : { غير أحياء } يستلزم نفي العلم عنها لأن الحياة شرط في قبول العلم ، ولأن نفي أن يكونوا يعلمون ما هو من أحوالهم يستلزم انتفاء أن يعلموا أحوال غيرهم بدلالة فحوى الخطاب ، ومن كان هكذا فهو غير إله .
وأسند { يخلقون } إلى النائب لظهور الفاعل من المقام ، أي وهم مخلوقون لله تعالى ، فإنهم من الحجارة التي هي من خلق الله ، ولا يخرجها نحت البشر إيّاها على صور وأشكال عن كون الأصل مخلوقاً لله تعالى . كما قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام قوله : { والله خلقكم وما تعملون } [ سورة الصافات : 96 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.