ثم بين - سبحانه - ما أعده لهم فى الآخرة من عذاب ، بعد بيان ما حل بهم فى الدنيا فقال : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً . . } .
أى : أن ما أصابهم فى الدنيا بسبب فسوقهم عن أمر ربهم ، ليس نهاية المطاف ، بل هيأ الله - تعالى - لهم عذابا أشد من ذلك وأبقى فى الآخرة .
وما دام كذلك { فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً . . } .
والألباب جمع لب ، وهو العقل السليم الذى يرشد صاحبه إلى الخير والبر .
وقوله { الذين آمَنُواْ } منصوب بإضمار أعنى على سبيل البيان للمنادى ، أو عطف بيان له .
والمراد بالذكر : القرآن الكريم ، وقد سمى بذلك فى آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ . . . }
أى : فيه شرفكم وعزكم ، وفيه ما يذكركم بالحق ، وينهاكم عن الباطل .
أى : فاتقوا الله - تعالى - يا أصحاب العقول السليمة ، ويامن آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، فهو - سبحانه - الذى أنزل عليكم القرآن الكريم ، الذى فيه ما يذكركم عما غفلتم عنه من عقيدة سليمة ، ومن أخلاق كريمة ، ومن آداب قويمه .
وفى ندائهم يوصف " أولى الألباب " إشعار بأن العقول الراجحة هى التى تدعو أصحابها إلى تقوى الله وطاعته ، وإلى كل كمال فى الطباع والسلوك .
والمراد بالرسول فى قوله - تعالى - : { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ } محمد - صلى الله عليه وسلم - وللمفسرين جملة من الأقوال فى إعرابه ، فمنهم من يرى أنه منصوب بفعل مقدر ، ومنهم من يرى أنه بدل من ذكرا . .
والمعنى : فاتقوا الله - أيها المؤمنون - فقد أنزلنا إليكم قرآنا فيه ما يذكركم بخير الدنيا والآخرة . . . وأرسلنا إليكم رسولا هو عبدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لكى يتلو عليكم آياتنا تلاوة تدبر وفهم ، يعقبهما تنفيذ ما اشتملت عليه هذه الآيات من أحكام وأداب وهدايات . .
ولكى يخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الشرك الذى كانوا واقعين فيه ، إلى نور الإيمان الذى صاروا إليه .
ومنهم من فسر الذكر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله : { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } هو النبى - صلى الله عليه وسلم - وعبر عنه بالذكر ، لمواظبته على تلاوة القرآن الذى هو ذكر .
ثم قال بعد ما قص من خبر هؤلاء : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : الأفهام المستقيمة ، لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب ، { الَّذِينَ آمَنُوا } أي : صدقوا بالله ورسله ، { قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا } يعني : القرآن . كقوله { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ]
وقوله تعالى : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } يظهر منه أنه بيان لوجه خسران عاقبتهم ، فيتأبد بذلك أن تكون المحاسبة والتعذيب والذوق في الدنيا ، ثم ندب تعالى { أولي الألباب } إلى التقوى تحذيراً ، وقوله تعالى : { الذين آمنوا } صفة ل { أولي الألباب } ، وقرأ نافع وابن عامر : «صالحاً ندخله » بالنون ، وكذلك روى المفضل عن عاصم ، وقرأ الباقون : «يدخله » بالياء ، وقوله تعالى : { قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً } اختلف الناس في تقدير ذلك ، فقال قوم من المتأولين : المراد بالاسمين القرآن ف «رسول » يعني رسالة ، وذلك موجود في كلام العرب .
وعاقبة الأمر : آخره وأثره . وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله : { أعد الله لهم عذاباً شديداً } .
وشبهت عاقبتهم السّوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضَوْا أنفسهم بإعْراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فلما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره .
وجيء بفعل { كان } بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليباً . وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه .
وجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } بدل اشتمال من جملة { وكان عاقبة أمرها خسراً } أو بدلَ بعض من كل .
والمراد عذاب الآخرة لأن الإِعداد التهيئة وإنما يهيَّأ الشيء الذي لم يحصل .
وإن جعلتَ الحساب والعذاب المذكورين آنفاً حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفاً فجملة { أعد الله لهم عذاباً شديداً } استئنافاً لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله : { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 30 ] .
{ فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين ءامنوا }
هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين } [ الطلاق : 1 ] وهو نتيجة ما مهّد له به من قوله : { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله } .
وفي نداء المؤمنين بوصف { أولي الألباب } إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني ، ولأن فوائدها حقيقية دائمة ، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ، 63 ] ، وقوله : { أولي } معناه ذوي ، وتقدم بيانه عند قوله : { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] آنفاً و { الذين آمنوا } بدل من { أولي الألباب } . وهذا الاتباع يومىء إلى أن قبولهم الإِيمان عنوان على رجاحة عقولهم . والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإِيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها .
في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه .
وتأكيد الخبر ب { قد } للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم .
والذكر : القرآن . وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك ، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } في سورة [ الحجر : 6 ] . وإنزال القرآن تبليغه إلى الرسول بواسطة الملك واستعير له الإِنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات ، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة .
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعملوا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم .
وقوله : { رسولاً } بدل من { ذكراً } بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمةً وملابسةً فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه ، فقد أُعمل فعل { أنزل } في { رسولاً } تبعاً لإِعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر . وهذا كما أبدل { رسول من الله } [ البينة : 2 ] من قوله : { حتى تأتيهم البينة } في سورة البينة ( 1 ) .
وأما تفسير الذكر بجبريل ، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال رسولاً } منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال ، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك ، وكذلك تفسير الذكر بجبريل .