{ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } بالمحبة والموالاة والنصرة .
{ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } هذه البضاعةَ الكاسدة ، والصفقةَ الخاسرة ، وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء ، والخلود الدائم في العذاب العظيم ، فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير الكريم ، وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم .
قوله تعالى : " ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا . . . . . . . . . . " أي : ترى - أيها الرسول الكريم - كثيرا من بني إسرائيل المعاصرين لك يوالون الكافرين ويحالفونهم عليك ؛ بسبب حسدهم لك على ما آتاك الله من فضله وبسبب كراهتهم للإِسلام والمسلمين .
والذي يقرأ تاريخ الدعوة الإِسلامية يرى أن اليهود كانوا دائما يضعون العراقيل في طريقها ، ويناصرون كل محارب لها ، ففي غزوة الأحزاب انضم بنو قريظة إلى المشركين ولم يقيموا وزنا للعهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين المسلمين .
وفي كل زمان ومكان نرى أن اليهود يحاربون الإِسلام والمسلمين ، ويؤيدون كل من يريد لهما الشرور والأضرار .
وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } ذم لهم على موالاتهم للمشركين وبيان لما حق بهم من سوء المصير بسبب مناصرتهم لأعداء الله ، ومحاربتهم لأوليائه .
أي : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم من أقوال كاذبة وأعمال قبيحة وأفعال منكرة استحقوا بسبها سخط الله عليهم ، ولعنه إياهم كما استحقوا أيضاً بسببها الخلود الدائم في العذاب المهين .
قال الجمل : و { ما } في قوله { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } هي الفاعل ، وقوله : { وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } هذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم فالتقدير : سخط الله عليهم وخلدهم في العذاب .
وقوله : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين . وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني بذلك موالاتهم للكافرين ، وتركهم موالاة المؤمنين ، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم ، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } فسر بذلك ما ذمهم به . ثم أخيرًا أنهم { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } يعني يوم القيامة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلمة{[10191]} بن علي ، عن الأعمش بإسناد ذكره قال : " يا معشر المسلمين ، إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال ، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فإنه يُذهب البهاء ، ويُورِث الفقر ، ويُنقِص العمر . وأما التي في الآخرة : فإنه يُوجب سَخَط الرب ، وسوء الحساب ، والخلود في النار " . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }
هكذا ذكره ابن أبي حاتم ، وقد رواه ابن مَرْدُويه عن طريق هشام بن عمار ، عن مسلمة{[10192]} عن الأعمش ، عن شَقِيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره . وساقه أيضًا من طريق سعيد بن غُفَير ، عن مسلمة ، عن أبي عبد الرحمن الكوفي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .
وهذا حديث ضعيف على كل حال{[10193]} والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَرَىَ كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : ترى يا محمد كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا ، يقول : يتولون المشركين من عبدة الأوثان ، يعادون أولياء الله ورسله لبِئْسَ ما قَدّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يقول تعالى ذكره : أُقْسم لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الاَخرة . أنْ سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ في موضع رفع ترجمة عن «ما » الذي في قوله : لَبِئْسَ ما . وَفي العذابِ همْ خالدونَ يقول : وفي عذاب الله يوم القيامة هم خالدون ، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه .
استئناف ابتدائي ذُكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دلّ على ذلك قوله : { يَتَولَّوْن الّذين كفروا } ، لأنّه لا يستغرب إلاّ لكونه صادراً ممّن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين . والرؤية في قوله { ترى } بَصريّة ، والخطاب للرّسول . والمراد ب { كثير منهم } كثير من يهود المدينة ، بقرينة قوله { ترى } ، وذلك أنّ كثيراً من اليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقاً ، نظراً لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها ، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عيناً ليهود خَيبر وقُريظة والنضِير . ومعنى { يتولّون } يتّخذونهم أولياء . والمراد بالّذين كفروا مشركو مكّة ومَنْ حَول المدينة من الأعراب الذين بقُوا على الشرك . ومن هؤلاء اليهود كَعْبُ بن الأشرف رئيسُ اليهود فإنّه كان موالياً لأهل مكّة وكان يغريهم بغزو المدينة . وقد تقدّم أنّهم المراد في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] .
وقوله { أنْ سخط الله عليهم } ( أنْ ) فيه مصدريّة دخلت على الفعل الماضي وهو جائز ، كما في « الكشاف » كقوله تعالى : { ولولا أنْ ثَبَّتْنَاك } [ الإسراء : 74 ] ، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذمّ . والتّقدير : لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سُخْطُ اللّهِ عليهم ، فسُخط الله مذموم . وقد أفاد هذا المخصوص أنّ الله قد غضب عليهم غضباً خاصّاً لموالاتهم الّذين كفروا ، وذلك غير مصرّح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف . ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللّعنة الّتي في قوله : { لُعِن الّذين كفروا من بني إسرائيل } [ المائدة : 78 ] . وكون ذلك ممّا قدّمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق .