194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان ، يقول تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي : لا فرق بينكم وبينهم ، فكلكم عبيد للّه مملوكون ، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم ، وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، مفترون على اللّه أعظم الفرية ، وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه ، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء ، فليس لها أرجل تمشي بها ، ولا أيد تبطش بها ، ولا أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان .
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها ، وهي عباد أمثالكم ، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء ، فلأي شيء عبدتموها .
ثم مضى القرآن في دعوته إياهم إلى التدبر والتعقل فقال : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } .
أى : إن هذه الآصناف التي تعبدونها من دون الله ، أو تنادونها لدفع الضرب أو جلب النفع { عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أى : مماثلة لكم في كونها مملوكة لله مسخرة مذللة لقدرته كما أنكم أنتم كذلك فكيف تعبدونها أو تنادونها ؟
وأطلق عليها لفظ { عِبَادٌ } - مع أنها جماد - وفق اعتقادهم فيها تبكيتا لهم وتوبيخا .
وقوله { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أى : فادعوهم في رفع ما يصيبكم من ضر ، أو في جلب ما أنتم في حاجة إليه من نفع { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في زعمكم أن هذه الأصنام قادرة على ذلك .
ثم تابع القرآن تقريعه لهذه الأصنام وعابديها فقال : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . .
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان موبخهم على عبادتهم ما لا يضرّهم ولا ينفعهم من الأصنام : إن الذين تدعون أيها المشركون آلهة من دون الله ، وتعبدونها شركا منكم وكفرا بالله ، عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ يقول : هم أملاك لربكم ، كما أنتم له مماليك . فإن كنتم صادقين أنها تضرّ وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم ، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم ، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم ، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضرّ لأن الضرّ والنفع إنما يكونان ممن إذا سئل سمع مسألة سائل وأعطى وأفضل ومن إذا شُكِيَ إليه من شيء سمع فضرّ من استحقّ العقوبة ونفع من لا يستوجب الضرّ .
قرأ جمهور الناس «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » بتثقيل «إنّ » ورفع «عبادٌ » وهي مخاطبة للكفار في تحقير شأن أصنامهم عندهم أي إن هذه الأصنام مخلوقة محدثة ، إذ هي أجسام وأجرام فهي متعبدة أي متملكة ، وقال مقاتل ، إن المراد بهذه الآية طائفة من العرب من خزاعة كانت تعبد الملائكة فأعلمهم الله أنهم عباد أمثالهم لا آلهة ، وقرأ سعيد بن جبير «إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم » بتخفيف النون من «إنْ » على أن تكون بمعنى ما وبنصب قوله «عباداً وأمثالكم » ، والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر ، بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل ، وسيبويه يرى أن «إن » إذا كانت بمعنى «ما » فإنها تضعف عن رتبة «ما » فيبقى الخبر مرفوعاً وتكون هي داخلة على الابتداء والخبر لا ينصبه ، فكان الوجه عنده في هذه القراءة «إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم » وأبو العباس المبرد يجيز أن تعمل عمل «ما » في نصب الخبر ، وزعم الكسائي أن «إن » بمعنى «ما » لا تجيء إلا وبعدها إلا كقوله تعالى : { إن الكافرون إلا في غرور } ثم بين تعالى الحجة بقوله { فدعوهم } أي فاختبروا فإن لم يستجيبوا فهم كما وصفنا .
هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب ، بقوله : { وإن تَدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] الآية ، النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به إلى مخاطبة المشركين ، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية ، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب .
والمراد بالذين تدعون من دون الله : الأصنام ، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطأ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله ، في حين هي ليست أهلا لذلك ، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب :
إن الذين تُرْوَنُهم إخوانكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا
ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق : أن تكون هذه الجملة بياناً وتعليلاً لجملة { وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم } [ الأعراف : 193 ] أي لأنهم عباد أي مخلوقون .
و ( العبد ) أصله المملوك ، ضد الحر ، كما في قوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] وقد أطلق في اللسان على المخلوق : كما في قوله تعالى : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] ولذلك يطلق العبد على الناس ، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاقُ العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق ، وجعله صاحب « الكشاف » اطلاقَ تهكم واستهزاء بالمشركين ، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم ، قال ولذلك أبطل أن يكونوا عباداً بفوله { ألهم أرجل } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره .
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة .
وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله { فادعوهم } فإنه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله { فليستجيبوا لكم } المضمن إجابة الأصنام إياهم ، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة ، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم ، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لانهاض حجتهم ، فئال ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين ، قال تعالى : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] .
والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم بأي مكان .
وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كناية عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم ، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبة الاستجابة .
والأمر باللام في قوله : { فليستجيبوا } أمرُ تعجيز للأصنام ، وهو أمر الغائب فإن طريق أمر الغائب هو الأمر .
ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلِّغ الأمر للغائب .
وهذا أيضاً كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابه لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم أخبر عن الآلهة، فقال: قل لكفار مكة: {إن الذين تدعون}، يعني تعبدون {من دون الله} من الآلهة، إنهم {عباد أمثالكم} وليسوا بآلهة، {فادعوهم}، يعني فاسألوهم، {فليستجيبوا لكم} بأنهم آلهة، {إن كنتم صادقين} بأنها آلهة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان موبخهم على عبادتهم ما لا يضرّهم ولا ينفعهم من الأصنام: إن الذين تدعون أيها المشركون آلهة من دون الله، وتعبدونها شركا منكم وكفرا بالله، "عِبَادٌ أمْثَالُكُمْ "يقول: هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك، فإن كنتم صادقين أنها تضرّ وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضرّ لأن الضرّ والنفع إنما يكونان ممن إذا سئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شُكِيَ إليه من شيء سمع فضرّ من استحقّ العقوبة ونفع من لا يستوجب الضرّ.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما قال "إن الذين "وهو يريد الأصنام، لأنها لما كانت عندهم معبودة تنفع وتضر، جاز أن يكني عنها بما يكنى عن الحي، كما قال في موضع آخر "بل فعله كبيرهم هذا فأسلوهم" ولم يقل فعله كبيرها فاسألوها، وقال "والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين" لما أضاف السجود إليها جمعها بالواو والنون التي تختص بالعقلاء ومعنى "من دون الله" غير الله، كأنه قال كل مدعو إلها غير الله "عباد أمثالكم"...
ثم قال "عباد أمثالكم" فإنما سماها كذلك لأن التعبد: التذلل، فلما كانت الأصنام تنصرف على مشيئة الله، وهي غير ممتنعة عما يريد الله تعالى بها، كانت بذلك في معنى العباد. ويقال عبدت الطريق إذا وطئته حتى تقرر وسهل سلوكه. ومنه قوله تعالى "وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني اسرائيل" أي: ذللتهم واستخدمتهم ضروبا من الخدم. وقال الجبائي وغيره: معنى "عباد" أي أملاك لربهم كما انتم عبيد له، فإن كنتم صادقين في ادعائكم أنها آلهة فادعوهم ليستجيبوا لدعائكم. وهذه لام الأمر على معنى التهجين كما قال "هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" فإذا لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم فاعلموا أنها لا تنفع ولا تضر ولا تستحق العبادة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا قُرِنَتْ الضرورةُ بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء؛ فالمخلوق إذا استعان بمخلوقٍ مثلِه ازداد بُعْدُ مرادِه عن النُّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية؟! هيهات! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم}. بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر، حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} استهزاء بهم، أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم...
أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية، فقال: {إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} وفيه سؤال: وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات؟ وجوابه من وجوه: الأول: أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع، وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة، فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم، ولذلك قال: {فادعوهم فليستجيبوا لكم} ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال: {إن الذين} ولم يقل التي. والجواب الثاني: أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم، فلم جعلتم أنفسكم عبيدا وجعلتموها آلهة وأربابا؟ ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم. فقال: {ألهم أرجل يمشون بها...} ثم أكد هذا البيان بقوله: {فادعوهم فليستجيبوا لكم} ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله: {فليستجيبوا} لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان اتباع من يدعي أنه أعقل الناس وأبعدهم عن النقائص وأعرقهم في معالي الأخلاق وأرفعهم عن سفسافها لمن هذا سبيله أخزى الخزي وأقبح العار، وكانوا مع العلم بهذا الذي وصفت به- معبوداتهم يفعلون في الإشراك بهم وفي خوفهم ورجائهم ما هو عين الجهل؛ كرر تبكيتهم باتباعهم في أسلوب آخر أوضح مما قبله في تبيين النقائص والتنبيه على المعايب ملجئ إلى الاعتراف أو التصريح بالعناد أو الجنون فقال مؤكداً: {إن الذين تدعون} أي أيها المشركون دعاء عبادة ملازمين لذلك، أو أنه أطلق الدعاء على العبادة إشارة إلى أنه لا تصح عبادة من ليس فيه قابلية أن يدعى، والحاصل أن الدعاء يلازم المعبود. ولما كان دعاؤهم لهم إنما هو على سبيل الإشراك، قال مشيراً إلى سفول رتبتهم بإثبات الجار: {من دون الله} أي الذي له صفات الكمال والعظمة والجلال {عباد أمثالكم} أي في العجز عن كل شيء لا سيما عما وقع به التحدي من معارضة القرآن وغيرها، وأنتم تزيدون عليها بالحياة والعقل، والمعبود لا يصح أن يكون مثل العابد فكيف إذا كان دونه؛ ولما كانوا لا يسلمون أنهم أمثالهم، سبب عن ذلك أمرهم بدعائهم لبيان دعوى المثلية بل الدونية فقال: {فادعوهم} أي إلى شيء من الأشياء. ولما كان الإله الحق يجيب وليه عند التحدي من غير تخلف، أشار إلى ذلك بالربط بالفاء فقال: {فليستجيبوا لكم} أي يوجدوا لكم إجابة بينة في الإتيان بسورة تماثل شيئاً من القرآن وفي شيء من المنافع. ولما كان المقام محتاجاً إلى مزيد توبيخ وإلهاب، قدم منه ما رأيت، ثم زاد في الإلهاب فقال: {إن كنتم} أي جبلة وطبعاً {صادقين*} أي في دعوى أنهم آلهة، فإن رتبة الإله تقتضي ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات تتمة لما قبلها من آيات التوحيد مقررة ومؤكدة لمضمونها، لأن توحيد العبادة ونفي الشرك فيها هو أس الإسلام، ولا يتقرر في الأذهان، ويثبت في الجنان، ويكمل بالوجدان، إلا بتكرار الآيات فيه نفيا وإثباتا لمضمون كلمة (لا إله إلا الله).
{إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم} الدعاء مخ العبادة وركنها الأعظم فلا يصح توحيد أحد لله إلا بدعائه وحده وعدم دعاء أحد معه كما قال: {فلا تدعوا مع الله أحدا} [الجن: 18] والمفسرون يقولون إن الدعاء في مثل هذه الآيات معناه العبادة من باب تسمية الكل باسم الجزء فصاروا يفسرون "تدعون "بتعبدون فضلَّ بعض العوام من القارئين وغيرهم في هذا التعبير وظنوا أن المرء لا يكون عابدا لغير الله تعالى إلا إذا كان يصلي له الصلاة المعروفة ويصوم لأجله، وأنه لا ينافي توحيد الله تعالى أن يدعى غيره معه أو يدعى من دونه بقصد التوسل إليه والاستشفاع لديه، إذا كان لا يصلي ولا يصوم له. وقال بعضهم: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية فيكون الإنكار فيه خاصا بتسميتهم لأصنامهم وغيرهم من معبوداتهم آلهة. وكل من هذا وذاك ضرب من ضروب الاحتمالات اللفظية التي يتعلق بها من أشرك بالله جاهلا بمعنى الشرك ممن يدعون الموتى من الصالحين لدفع الضر عنهم أو جلب الخير لهم، من غير طريق الأسباب التي هي من تناول كسبهم وسعيهم، ولكنهم لا يسمونهم آلهة. وهذا هو الشرك الأكبر الذي نعي على المشركين من قبلهم لا مجرد التسمية التي لا تكون بدونه صحيحة. والحق الذي لا معدل عنه أن الدعاء هنا هو النداء لدفع الضر أو جلب النفع الموجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه به أن يجيبه إلى ما طلبه بذاته أو بحمله للرب الخالق على ذلك بحيث يجيب دعاء الداعي لأجله. يقول تعالى: إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد الله أمثالكم في كونهم مخلوقين لله تعالى خاضعين لسننه في خلقه، وإذا كانوا أمثالكم امتنع عقلا أن تطلبوا منهم ما لا تستطيعون نيله بأنفسكم ولا بمساعدة أمثالكم لكم فيما يتوقف على التعاون في اتخاذ الأسباب له. وإنما يدعى لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق الرب الخالق المسخر للأسباب الذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها، ولا لإرادة أحد يحمله على ما يشاؤه منها. وهذه المماثلة إنما تظهر فيمن يدعى من دون الله تعالى من الملائكة أو الأنبياء أو الصلحاء، دون ما اتخذ لهم تذكيرا بهم من التماثيل أو القبور أو الأصنام، وقد صار بعض هذه المذكرات يقصد لذاته، جهلا بما كانت اتخذت لأجله، وفي هذه الحالة تدخل في المماثلة بطريقة تنزيلها منزلة ما وضعت لأجله، كأنه يقول إن قصارى أمرها أن تكون من الأحياء العقلاء أمثالكم، فكيف ترفعونها عن هذه المثلية، إلى مقام الربوبية؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب، بقوله: {وإن تَدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} [الأعراف: 193] الآية، النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافاً ابتدائياً انتُقل به إلى مخاطبة المشركين، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
والمراد بالذين تدعون من دون الله: الأصنام، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطأ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله، في حين هي ليست أهلا لذلك...
ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق: أن تكون هذه الجملة بياناً وتعليلاً لجملة {وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم} [الأعراف: 193] أي لأنهم عباد أي مخلوقون.
و (العبد) أصله المملوك، ضد الحر، كما في قوله تعالى: {الحر بالحر والعبد بالعبد} [البقرة: 178] وقد أطلق في اللسان على المخلوق: كما في قوله تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} [مريم: 93] ولذلك يطلق العبد على الناس، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاقُ العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق، وجعله صاحب « الكشاف» اطلاقَ تهكم واستهزاء بالمشركين، يعني أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم، قال ولذلك أبطل أن يكونوا عباداً بقوله {ألهم أرجل} [الأعراف: 195] إلى آخره.
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازاً بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة.
وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله {فادعوهم} فإنه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله {فليستجيبوا لكم} المضمن إجابة الأصنام إياهم، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لإنهاض حجتهم، فآل ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين، قال تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم} [فاطر: 14].
والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازني إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأيّة حرب أم بأي مكان.
وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كناية عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبه الاستجابة.
والأمر باللام في قوله: {فليستجيبوا} أمرُ تعجيز للأصنام، وهو أمر الغائب فإن طريق أمر الغائب هو الأمر.
ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلِّغ الأمر للغائب.
وهذا أيضاً كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابة لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
تدرج الله تعالى مستنكرا لعبادتهم من أدنى حال متصورة لهم إلى أعلاها، فذكر أنها أحجار لا تضر ولا تنفع ولا تستطيع لأحد نصرا ولا تنصر نفسها، ثم صور لهم أنها تنادى فلا تجيب لأنها لا حياة فيها، إنما يجيب النداء للأحياء ولو كانت تنعق، ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء، فإنها لا تستجيب للدعاء، فقال تعالت كلماته:
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)}. {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)}.
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان، والله – سبحانه وتعالى – يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لا تنفع ولا تضر ولا تسمع، وليس فيها حياة إلى فرض أنها فيها حياة، وفي هذا الفرض البعيد لا يعلون عليكم معشر المشركين، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له، فكيف تعبدون مثلكم، ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له – مثلكم؟!.
والحق أنه دونكم لأنه أصم لا يسمع، أبكم لا يتكلم، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى. ولقد تحداهم أن يدعوهم، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول؛ ولذا قال تعالى: {فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين} في دعواكم الألوهية. والأمر للتحدي أو للتعجيز لا للطلب ولا الإباحة.