فقال أصحاب القرية لرسلهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي : لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر ، وهذا من أعجب العجائب ، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد ، وأجل كرامة يكرمهم بها ، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة ، قد قدم بحالة شر ، زادت على الشر الذي هم عليه ، واستشأموا بها ، ولكن الخذلان وعدم التوفيق ، يصنع بصاحبه أعظم مما{[752]} يصنع به عدوه .
ثم توعدوهم فقالوا : { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي : نقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتلات { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ولكن أهل القرية لم يقتنعوا بهذا المنطق السليم ، بل ردوا على الرسل ردا قبيحا ، فقالوا لهم : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }والتطير : التشاؤم . أى قالوا فى الرد عليهم : إنا تشاءمنا من وجودكم بيننا ، وكرهنا النظر إلى وجوهكم ، وإذا لم ترحلوا عنا ، وتكفوا عن دعوتكم لنا إلى ما لا نريده ، لنرجمنكم بالحجارة ، وليمسنكم منا عذاب شديد الألم قد ينتهى بقتلكم وهلاككم .
قال صاحب الكشاف : قوله { تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أى : تشاءمنا بكم ، وذلك أنهم كرهوا دينهم ، ونفرت منه نفوسهم ، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شئ مالوا إليه ، واشتهوه وآثروه وقبلته طباعتهم ، ويتشاءموا مما نفروا عنه وكرهوه ، فإن أصابهم خير أو بلاء ، قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا .
ولكن المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير ؛ ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى ( فتأخذهم العزة بالإثم )ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد :
( قالوا : إنا تطيرنا بكم ! لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ، وليمسنكم منا عذاب أليم ) . .
قالوا : إننا نتشاءم منكم ؛ ونتوقع الشر في دعوتكم ؛ فإن لم تنتهوا عنها فإننا لن نسكت عليكم ، ولن ندعكم في دعوتكم : ( لنرجمنكم ، وليمسنكم منا عذاب أليم ) . .
وهكذا أسفر الباطل عن غشمه ؛ وأطلق على الهداة تهديده ؛ وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة ، وعربد في التعبير والتفكير !
قال بعض المتأولين : إن أهل هذه القرية أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم المرسلين فلذلك { قالوا إنا تطيرنا بكم } ، وقال مقاتل : احتبس عنهم المطر فلذلك قالوه ، ومعناه تشاءمنا بكم ، مأخوذ من الحكم بالطير ، وهو معنى متداول في الأمم وقلما يستعمل تطيرت إلا في الشؤم ، وأما حكم الطير عند مستعمليه ففي التيمن وفي الشؤم ، والأظهر أن تطير هؤلاء إنما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس ، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى نحو ما خوطب به موسى ، وقال قتادة : قالوا إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، و { لنرجمنكم } معناه بالحجارة ، قاله قتادة .
لما غلبتهم الحجة من كل جانب وبلغ قول الرسل { وما علينا إلا البلاغ المبين } [ يس : 17 ] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعاً للرسل بترك دعوتهم ظنّاً منهم أن يدَّعونه شيء خفي لا قِبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه ، وذلك بأن زعموا أنهم تطيّروا بهم ولحقهم منهم شُؤْم ، ولا بد للمغلوب من بارد العذر .
والتطير في الأصل : تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه ، ثم أطلق على كل حدث يَتوهم منه أحد أنه كان سبباً في لحاق شر به فصار مرادفاً للتشاؤم .
وفي الحديث : « لا عَدوى ولا طِيَرَة وإنما الطِيرَة على من تَطير » وبهذا المعنى أطلق في هذه الآية ، أي قالوا : إنا تشاءمنا بكم .
ومعنى { بكم } بدعوتكم ، وليسوا يريدون أن القرية حلّ بها حادث سوء يعمّ الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضرّ العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم ، وقد جوزه بعض المفسرين ، وإنما معْنى ذلك : أن أحداً لا يخلو في هذه الحياة من أن يناله مكروه . ومن عادة أصحاب الأوهام السخيفة والعقول المأفونة أن يسندوا الأحداث إلى مقارناتها دون معرفة أسبابها ثم أن يتخيروا في تعيين مقارنات الشؤم أموراً لا تلائم شهواتهم وما ينفرون منه ، وأن يعينوا من المقارنات للتيمن ما يرغبون فيه وتقبله طباعهم يغالطون بذلك أنفسهم شأن أهل العقول الضعيفة ، فمرجع العلل كلها لديهم إلى أحوال نفوسهم ورغائبهم كما حكى الله تعالى عن قوم فرعون : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يَطَّيَّروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] وحكَى عن مشركي مكة { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } [ النساء : 78 ] .
ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافاً بين أهل القرية فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جراء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا : { إنا تطيرنا بكم } أي يقولها الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية .
ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا : { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم } وبذلك ألجأوا ( بولس ) و ( برنابا ) إلى الخروج من أنطاكية فخرجا إلى أيقونية وظهرت كرامة ( بولس ) في أيقونية ثم في ( لسترة ) ثم في ( دربة ) . ولم يزل اليهود في كل مدينة من هذه المدن يشاقّون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم ويَلحقونهم إلى كل بلد يحلّون به ليشغبوا عليهم ، فمسّهم من ذلك عذاب وضرّ ورُجم ( بولس ) في مدينة ( لسترة ) حتى حسبوا أن قد مات .
ولام { لئن لم تنتهوا } موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال القوم للرسل: {قالوا إنا تطيرنا بكم} يقول: تشاءمنا بكم...
{لئن لم تنتهوا لنرجمنكم}: لئن لم تسكتوا عنا لنقتلنكم.
{وليمسنكم} يعني وليصيبنكم {منا عذاب أليم} يعني وجيعا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال أصحاب القرية للرسل:"إنّا تَطَيّرْنا بِكُمْ" يعنون: إنا تشاءمنا بكم، فإن أصابنا بَلاء فمن أجلكم...
وقوله: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنرْجُمَنّكُمْ "يقول: لئن لم تنتهوا عما ذكرتم من أنكم أرسلتم إلينا بالبراءة من آلهتنا، والنهي عن عبادتنا لنرجمنكم، قيل: عُني بذلك لنرجُمَنّكم بالحجارة...
"وَلَيَمَسّنّكُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: ولينالنكم منا عذاب مُوجِع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قالوا إنا تطيّرنا بكم} دل هذا القول منهم على أنه قد نزل شيء من العذاب والشدة حتى تشاءموا بهم. ذلك، ولم تزل عادة الكفرة التّطيُّر بالرسل عند نزول البلاء بهم كقوله: {قالوا اطّيّرنا بك وبمن معك} [النمل: 47].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منهم نفوسهم، وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابهم نعمة أو بلاء قالوا ببركة هذا وبشؤم هذا.
كان جوابهم بعد هذا أنهم {قالوا إنا تطيرنا بكم} وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب، فلما قال المرسلون: {إنا إليكم مرسلون} قالوا: {إن أنتم إلا تكذبون} ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا: {ربنا يعلم} [يس: 16] أكدوا قولهم بالتطير بهم فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و «اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» فتشاءمنا بكم ثانيا، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا: {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}.
لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما: لنشتمنكم من الرجم بالقول وعلى هذا فقوله: {وليمسنكم} ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي.
وثانيهما: أن يكون المراد الرجم بالحجارة، وحينئذ فقوله: {وليمسنكم} بيان للرجم، يعني ولا يكون الرجم رجما قليلا نرجمكم بحجر وحجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى المؤلم، والفعيل معنى مفعل قليل، ويحتمل أن يقال هو من باب قوله: {عيشة راضية} [الحاقة: 21] أي ذات رضا، فالعذاب الأليم هو ذو ألم، وحينئذ يكون فعيلا بمعنى فاعل وهو كثير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان حلول الصالحين بين الناس يكون تارة نعمة وأخرى نقمة باعتبار التصديق والتكذيب والإساءة والإحسان، فكان قد حصل لهؤلاء الذين كذبوا هؤلاء الرسل بلاء لتكذيبهم لهم من جدب الأرض وصعوبة الزمان، ونحو ذلك من الامتحان، ذكر ما أثره ذلك عند أهل القرية فقال: {قالوا}.
ولما كانوا لما يرون عليهم من الآيات وظاهر الكرامات مما يشهد ببركتهم ويمن نقيبتهم بحيث إذا ذموهم توقعوا تكذيب الناس لهم، أكدوا قولهم: {إنا تطيرنا} أي حملنا أنفسنا على الطيرة والتشاؤم تطيراً ظاهراً -بما أشار إليه الإظهار بخلاف ما في النمل والأعراف {بكم}.
ثم إنهم استأنفوا استئناف النتائج قولهم على سبيل التأكيد إعلاماً بأن ما أخبروا به لا فترة لهم عنه وإن كان مثلهم مستبعداً عند العقلاء: {لئن لم تنتهوا} أي عن دعائكم هذا {لنرجمنكم}.
ولما كان الإنسان قد يفعل ما لا يؤخذ أثره؛ فقالوا معبرين بالمس دون الإمساس: {وليمسنكم منا} أي عاجلاً لا من غيرنا، كما تقولون أنتم في تهديدكم إيانا بما يحل بنا ممن أرسلكم {عذاب أليم} حتى تنتهوا عنا لنكف عن إيلامكم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قال أصحاب القرية لرسلهم: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم اللّه بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق، يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
المكذبين الضالين لا يأخذون الأمور هذا المأخذ الواضح السهل اليسير؛ ولا يطيقون وجود الدعاة إلى الهدى (فتأخذهم العزة بالإثم) ويعمدون إلى الأسلوب الغليظ العنيف في مقاومة الحجة لأن الباطل ضيق الصدر عربيد:
(قالوا: إنا تطيرنا بكم! لئن لم تنتهوا لنرجمنكم، وليمسنكم منا عذاب أليم)..
وهكذا أسفر الباطل عن غشمه؛ وأطلق على الهداة تهديده؛ وبغى في وجه كلمة الحق الهادئة، وعربد في التعبير والتفكير!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما غلبتهم الحجة من كل جانب وبلغ قول الرسل {وما علينا إلا البلاغ المبين} [يس: 17] من نفوس أصحاب القرية مبلغ الخجل والاستكانة من إخفاق الحجة والاتسام بميسم المكابرة والمنابذة للذين يبتغون نفعهم انصرفوا إلى ستر خجلهم وانفحامهم بتلفيف السبب لرفض دعوتهم بما حسبوه مقنعاً للرسل بترك دعوتهم ظنّاً منهم أن يدَّعونه شيء خفي لا قِبل لغير مخترعه بالمنازعة فيه، وذلك بأن زعموا أنهم تطيّروا بهم ولحقهم منهم شُؤْم، ولا بد للمغلوب من بارد العذر.
والتطير في الأصل: تكلف معرفة دلالة الطير على خير أو شر من تعرض نوع الطير ومن صفة اندفاعه أو مجيئه، ثم أطلق على كل حدث يَتوهم منه أحد أنه كان سبباً في لحاق شر به فصار مرادفاً للتشاؤم.
ومعنى {بكم} بدعوتكم، وليسوا يريدون أن القرية حلّ بها حادث سوء يعمّ الناس كلهم من قحط أو وباء أو نحو ذلك من الضرّ العام مقارن لحلول الرسل أو لدعوتهم، وقد جوزه بعض المفسرين.
ويجوز أن يكونوا أرادوا بالشؤم أن دعوتهم أحدثت مشاجرات واختلافاً بين أهل القرية، فلما تمالأت نفوس أهل القرية على أن تعليل كل حدث مكروه يصيب أحدهم بأنه من جراء هؤلاء الرسل اتفقت كلمتهم على ذلك فقالوا: {إنا تطيرنا بكم} أي يقولها الواحد منهم أو الجمع فيوافقهم على ذلك جميع أهل القرية.
ثم انتقلوا إلى المطالبة بالانتهاء عن هذه الدعوة فقالوا: {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم}،ولم يزل اليهود في كل مدينة يشاقّون الرسل ويضطهدونهم ويثيرون الناس عليهم ويَلحقونهم إلى كل بلد يحلّون به ليشغبوا عليهم، فمسّهم من ذلك عذاب وضرّ.
ولام {لئن لم تنتهوا} موطئة للقسم حكي بها ما صدر منهم من قسم بكلامهم.