{ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ } أي : وقت يستقر فيه ، وزمان لا يتقدم عنه ولا يتأخر . { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ما توعدون به من العذاب . { 68 ، 69 } { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون }َ
{ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } .
قال الراغب : " النبأ : خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حق يتضمن هذه الأشياء الثلاثة " .
أى : لكل خبر عظيم وقت استقرار وحصول لا بد منه ، وسوف تعلمونه فى المستقبل عند حلوله بكم متى شائ الله ذلك ، قال - تعالى - { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } وبذلك تكون الآيات الكريمة قد ساقت ألوانا من قدرة الله ، وهددت المعاندين فى كل زمان ومكان بسوء المصير .
ثم يأمر الله تعالى نبيه [ ص ] أن يبرأ من قومه ، وينفض منهم يده ، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة ، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئا ؛ وأنه ليس حارسا عليهم ولا موكلا بهم بعد البلاغ ، ولا مكلفا أن يهدي قلوبهم - فليس هذا من شأن الرسول - ومتى أبلغهم ما معه من الحق ، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر ؛ وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لا بد أن ينتهي إليه أمرهم . فإن لكل نبأ مستقرا ينتهي إليه ويستقر عنده . وعندئذ يعلمون ما سيكون !
( لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون ) . .
وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب . .
إنها الطمأنينة الواثقة بالحق ؛ الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح ، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم ، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر ؛ وكل حاضر إلى مصير .
وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله - في مواجهة التكذيب من قومهم ، والجفوة من عشيرتهم ، والغربة في أهلهم ، والأذى والشدة والتعب والأواء . . ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب !
جملة { لكلّ نبأ مستقرّ } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنّ قوله { وهو الحق } يثير سؤالهم أن يقولوا : فمتى ينزل العذاب . فأجيبوا بقوله : { لكلّ نبأ مستقرّ } .
والنبأ : الخبر المهم ، وتقدّم في هذه السورة . فيجوز أن يكون على حقيقته ، أي لكلّ خبر من أخبار القرآن ، ويجوز أن يكون أطلق المصدر على اسم المفعول ، أي لكلّ مخبَر به ، أي ما أخبِروا به من قوله : { أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } [ الأنعام : 65 ] الآية .
والمستقرّ وقت الاستقرار ، فهو اسم زمانِه ، ولذلك صيغ بوزن اسم المفعول ، كما هو قياس صوغ اسم الزمان المشتقّ من غير الثلاثي . والاستقرار بمعنى الحصول ، أي لكلّ موعود به وقت يحصل فيه . وهذا تحقيق للوعيد وتفويض زمانه إلى علم الله تعالى . وقد يكون المستقرّ هنا مستعملاً في الانتهاء والغاية مجازاً ، كقوله تعالى : { والشمس تجري لمستقرّ لها } [ يس : 38 ] ، وهو شامل لوعيد الآخرة ووعيد الدنيا ولكلَ مستقرّ . وعن السّدّي : استقرّ يوم بدر ما كان يَعِدهم به من العذاب .
وعطف { سوف تعلمون } على جملة { لكلّ نبأ مستقرّ } أي تعلمونه ، أي هو الآن غير معلوم وتعلمونه في المستقبل عند حلوله بكم . وهذا أظهر في وعيد العذاب في الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لكل نبإ مستقر}: لكل حديث حقيقة ومنتهى، يعني العذاب منه في الدنيا، وهو القتل ببدر، ومنه في الآخرة نار جهنم، وذلك قوله: {وسوف تعلمون}، أوعدهم العذاب، مثلها في اقتربت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ": لكل خبر مُسْتقَرّ، يعني قَرار يستقرّ عنده ونهاية ينتهي إليها، فيتبين حقه وصدقه من كذبه وباطله. "وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ": وسوف تعلمون أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم أيها المشركون وحقيته عند حلول عذابه بكم. فرأوا ذلك وعاينوه فقتلهم يومئذ بأوليائه من المؤمنين.
عن السّديّ: "وَكَذّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَقّ "يقول: كذبت قريش بالقرآن، وهو الحقّ. وأما الوكيل: فالحفيظ: وأما "لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ": فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يعدهم من العذاب.
عن مجاهد لكل نبأ مستقر بكل نبأ حقيقة إما في الدنيا وإما في الاَخرة؛ "وسوف تعلمون "ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الاَخرة فسوف يبدو لكم.
عن ابن عباس، قوله: "لِكُلّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌ" يقول: حقيقة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لِّكُلِ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث، قاله الحسن. والثالث: أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا، قاله الزجاج.
ثم قال تعالى: {لكل نبإ مستقر} والمستقر يجوز أن يكون موضع الاستقرار، ويجوز أن يكون نفس الاستقرار؛ لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج، بمعنى الإدخال والإخراج، والمعنى: أن لكل خبر يخبره الله تعالى وقتا أو مكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير، وإن جعلت المستقر بمعنى الاستقرار، كان المعنى لكل وعد ووعيد من الله تعالى استقرار، ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره ونزوله. وهذا الذي خوف الكفار به يجوز أن يكون المراد منه عذاب الآخرة، ويجوز أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتل والقهر في الدنيا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا تمام ما أمر الله تعالى رسوله أن يقوله لقومه المكذبين، والنبأ الخبر كما قيل أو الخبر الذي له شأن يهتم به، وقال الراغب خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة اه. ويراد به المعنى المصدري أو مدلوله الذي يقع مصدقا له. والمستقر مصدر ميمي بمعنى الاستقرار وهو الثبات الذي لا تحول فيه واسم زمان ومكان له، وإرادة الزمان هنا أظهر ويستلزم غيره معه.
والمعنى: لكل شيء ينبأ عنه مستقر تظهر فيه حقيقته ويتميز حقه من باطله، فلا يبقى مجال للاختلاف فيه، وسوف تعلمون مستقر ما أنبأ به القرآن الذي كذبتم به من وعد ووعيد- أو لكل نبأ من أنباء القرآن الحق الذي كذبوا به زمان يحصل فيه مضمونه فيكون قارا ثابتا فيه. ومن هذه الأنباء ما وعد الله الرسول من نصره عليهم وما أوعدهم من الخزي والعذاب في الدنيا والآخرة {كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون* فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} [الزمر: 25، 26] {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} [هود: 93] {ويحل عليه عذاب مقيم} [هود: 39] {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل} [الزمر: 41] وسوف تعلمون ذلك عند وقوعه. وحسبك هذه الشواهد فهي مطابقة لما هنا أتم المطابقة، وإذا جعل المستقر بمعنى الاستقرار كان معناه لكل نبأ من أنباء القرآن استقرار أي وقوع ثابت لا بد منه.
ومن أنباء القرآن ما هو خاص بأولئك القوم ومنه ما هو في غيرهم، ومنه ما هو نبأ عن أهل ذلك العصر ومنه ما هو نبأ عمن بعدهم. ومنه ما هو عام يشمل أمورا تأتي في أزمنة مختلفة فيحصل في كل زمن منها ما يثبت لمن فقهه حقية القرآن {قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد* سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} [فصلت: 52، 53] وإذا أردت أن تزداد فهما بوجوه الاتصال والتناسب بين الآيات في هذا السياق، فارجع إلى ما ذكرناه من الكلام في مسألة استعجالهم العذاب، وأجله الذي لا يتعداه، والحمد لله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون). وفي هذا الإجمال من التهديد ما يزلزل القلوب. إنها الطمأنينة الواثقة بالحق؛ الواثقة بنهاية الباطل مهما تبجح، الواثقة بأخذ الله للمكذبين في الأجل المرسوم، الواثقة من أن كل نبأ إلى مستقر؛ وكل حاضر إلى مصير. وما أحوج أصحاب الدعوة إلى الله -في مواجهة التكذيب من قومهم، والجفوة من عشيرتهم، والغربة في أهلهم، والأذى والشدة والتعب واللأواء.. ما أحوجهم إلى هذه الطمأنينة الواثقة التي يسكبها القرآن الكريم في القلوب!
النبأ هو الخبر المهم، فليس كل خبر نبأ، ذلك أن هناك المثير من الأخبار التافهة التي يتساوى فيها العلم الذي لا ينفع بالجهل الذي لا يضر. ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق: {عم يتساءلون (1) عن النبأ العظيم (2) الذي هم فيه مختلفون (3)} (سورة النبأ). إذن فلكل نبأ مستقر، والمستقر هو ما طلب القرار فيه، والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه. والمظروفية تنقسم قسمين: مظروفية زمان، ومظروفية مكان. أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر. وسوف يعلم الإنسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق بميلاد هذا المستقر الذي يعلن فيه الخبر. النبأ – إذن – هو الخبر العظيم المدهش، ولا أعظم من تجلي السماء على الأرض بمنهج جديد ينقذها مما هي فيه من ضلال، وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان. إذن هو نبأ عظيم؛ لأنه يخلص دنيا الناس من جبابرة الأرض، ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعا من أهوائهم. فلا أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لأن هوى كل نفس يخدم شهواتها، والشهوات متضاربة، فإذا حكم كل إنسان هواه فلن تجد الأرض قضية متفقا عليها. ولذلك تكفل الحق سبحانه وتعالى للإنسان بمسألة تنظيم المنهج، وهو الأمر الذي تختلف فيه الأهواء. وأما الأمر الذي تلتقى فيه الأهواء وهو استنباط ما في الأرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد تركه للإنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه الله، من الكون الذي خلقه الله، وليسعد الإنسان بتلك الأسرار التي يستكشفها في الكون. ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية، ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط منها الأسرار وأنجز الكثير من الاكتشافات العلمية. ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك المجالات، بل التقت كل الأهواء عند هذه الاكتشافات
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} ولا بدّ من أن يبلغ قاعدته {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}. ويثير هذا الغموض في النفس الإنسانية الكثير الكثير من حالات التهويل في ما يمكن أن يصادفه مما لا يعرف الإنسان طبيعته ولا مداه.