{ 22 - 26 ْ } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ْ }
أي : لما حملت بعيسى عليه السلام ، خافت من الفضيحة ، فتباعدت عن الناس { مَكَانًا قَصِيًّا ْ } فلما قرب ولادها ،
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد تلك القصة العجيبة ، حكت فيها حالتها عند حملها بعيسى ، وعندما جاءها المخاض . فقال - تعالى - : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت . . . } .
قال ابن كثير رحمه الله : يقول - تعالى - مخبراً عن مريم ، أنها لما قال لها جبريل عن الله - تعالى - ما قال : أنها استسلمت لقضائه - تعالى - ، فذكر غير واحد من علماء السلف ، أن الملك وهو جبريل - عليه السلام - عند ذلك نفخ فى جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت فى الفرج ، فحملت بالولد بإذن الله - تعالى - . . .
والمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر . قال عكرمة : ثمانية أشهر . وعن ابن عباس أنه قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله - تعالى - : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة } . فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شىء بحسبه .
فالمشهور الظاهر - والله على كل شىء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن . . . " .
والفاء فى قوله - تعالى - : { فَحَمَلَتْهُ . . } هى الفصيحة ؛ أى : وبعد أن قال جبريل لمريم إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيا . . . نفخ فيها فحملته ، أى : عيسى ، فانتبذت به ، أى : فتنحت به وهو فى بطنها { مَكَاناً قَصِيّاً } أى : إلى مكان بعيد عن المكان الذى يسكنه أهلها .
يقال : قَصِى فلان عن فلان قَصْواً وقُصُوًّا ، إذا بعد عنه . ويقال : فلان بمكان قصى ، أى : بعيد .
وجمهور العلماء علىأن هذا المكان القصى ، كان بيت لحم بفلسطين .
قال ابن عباس : أقصى الوادى ، وهو وادى بيت لحم ، فراراً من قومها أن يعيروها بولادتها من غير زوج " .
ثم تمضي القصة في مشهد جديد من مشاهدها ؛ فتعرض هذه العذراء الحائرة في موقف آخر أشد هولا :
( فحملته فانتبذت به مكانا قصيا . فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة ؛ قالت : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ) . .
إن السياق لا يذكر كيف حملته ولا كم حملته . هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة فإذا هي علقة فمضغة فعظام ثم تكسى العظام باللحم ويستكمل الجنين أيامه المعهودة ? إن هذا جائز . فبويضة المرأة تبدأ بعد التلقيح في النشاط والنمو حتى تستكمل تسعة أشهر قمرية ، والنفخة تكون قد أدت دور التلقيح فسارت البويضة سيرتها الطبيعية . . كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية ، فتختصر المراحل اختصارا ؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة . . ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين . فلا نجري طويلا وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها . . . فلنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيا عن أهلها ، في موقف أشد هولا من موقفها الذي أسلفنا .
{ فحملته } بأن نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر وقيل ستة وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره ، وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة ، وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين . فانتبذت به فاعتزلت وهو في بطنها كقوله :
*** تدوس بنا الجماجم والتريبا ***
والجار والمجرور في موضع الحال { مكانا قصيا } بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار .
وروي أن جبريل عيله السلام حين قاولها هذه المقاولة «نفخ في جيب درعها » فسرت النفخة بإذن الله حتى حملت منه قاله وهب بن منبه وغيره ، وقال ابن جريح : نفخ في جيب درعها وكمها وقال أبي بن كعب «دخل الروح المنفوخ من فمها » فذلك قوله تعالى : { فحملته } أي حملت الغلام . ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة ، فلما أحست بذلك وخافت تعنيف الناس وأن يظن بها الشر { انتبذت به } أي تنحت { مكاناً } بعيداً حياء وفراراً على وجهها ، وروي في هذا أنها فرت الى بلاد مصر أو نحوها قال وهب بن منبه ، وروي أيضاً أنها خرجت الى موضع يعرف ( ببيت لحم ) بينه وبين أيلياء أربعة أميال .
الفاء للتفريع والتعقيب ، أي فحملت بالغلام في فور تلك المراجعة .
والحمل : العلوق ، يقال : حملت المرأة ولداً ، وهو الأصل ، قال تعالى : { حملته أمه كرهاً } [ الأحقاف : 15 ] . ويقال : حملت به . وكأن الباء لتأكيد اللصوق ، مثلها في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] . قال أبو كبير الهذلي :
حملت به في ليلة قرءودة *** كرهاً وعقد نطاقها لم يُحلَل
والانتباذ تقدم قريباً ، وكذلك انتصاب { مكاناً } تقدم .
و { قَصِيّاً } بعيداً ، أي بعيداً عن مكان أهلها . قيل : خرجت إلى البلاد المصرية فارّة من قومها أن يعزّروها وأعانها خطيبها يوسف النجّار وأنها ولدت عيسى عليه السلام في الأرض المصرية . ولا يصح .
وفي إنجيل لوقا : أنها ولدته في قرية بيت لحم من البلاد اليهودية حين صعدت إليها مع خطيبها يوسف النجار إذ كان مطلوباً للحضور بقرية أهله لأن ملك البِلاد يجري إحصاء سكان البلاد ، وهو ظاهر قوله تعالى : { فأتت به قومَها تحمله } [ مريم : 27 ] . h
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.