{ 45-46 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } كما آتيناك الكتاب ، فصنع به الناس ما صنعوا معك ، اختلفوا فيه : فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع ، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به ، وإن اللّه تعالى ، لولا حلمه وكلمته السابقة ، بتأخير العذاب إلى أجل مسمى لا يتقدم عليه ولا يتأخر { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين ، بإهلاك الكافرين في الحال ، لأن سبب الهلاك قد وجب وحق . { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم ، فلذلك كذبوه وجحدوه .
ثم بين - سبحانه - زيادة فى التسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أن اختلاف الأمم فى شأن ما جاء به الرسل شئ قديم فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ . . } .
أى : ولقد آتينا نبينا موسى - عليه السلام - كتابه التوراة ليكون هداية ونورا لقومه ، فاختلفوا فى شأن هذا الكتاب ، فمنهم من آمن به ، ومنهنم من صد عنه .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } - أيها الرسول الكريم - وهى ألا يعذب المكذبين من أمتك فى الدنيا عذابا يستأصلهم ويهلكهم .
لولا ذلك { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أى : لأهلكهم كما أهلك السابقين من قبلهم .
{ وَإِنَّهُمْ } أى : كفار قومك { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أى : لفى شك من هذا القرآن وريبة من أمره ، جعلهم يعيشون فى قلق واضطراب .
ويشير إلى موسى وكتابه واختلاف قومه في هذا الكتاب . يشير إليه نموذجاً للرسل الذين ورد ذكرهم من قبل إجمالاً . وقد أجل الله حكمه في اختلافهم ، وسبقت كلمته أن يكون الفصل في هذا كله في يوم الفصل العظيم :
( ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم ، وإنهم لفي شك منه مريب ) . .
وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } أي : كذب وأوذي ، { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] . { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [ الشورى : 14 ] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد ، { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لعجل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } أي : وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا ، بل كانوا شاكين فيما قالوا{[25750]} ، غير محققين لشيء كانوا فيه . هكذا وجهه ابن جرير ، وهو محتمل ، والله أعلم .
{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ } .
اعتراض بتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأَوحدَ في ذلك فقد أوتي موسى التوراة فاختلف الذين دعاهم في ذلك ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر .
والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين : اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر ، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة ، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافاً عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى : { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } [ البقرة : 253 ] ، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن . وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال : { وإنا له لحافظون } [ يوسف : 12 ] فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع ، وهذا ناظر إلى قوله آنفاً : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } [ فصلت : 43 ] على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مريب }
هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله : { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمتُه ، فأَما قوم موسى فقد قضَى بينهم باستئصال قوم فرعون ، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى ، وبخراب بيت المقدس ، وزوال ملك إسرائيل آخراً . وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر .
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين ، والإِمهالِ إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر .
والتعبير عن الجلالة بلفظ { رَبِّكَ } لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له ، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف . وكلا الأمرين تعزيز للتسلية .
ولك أن تجعل كلمة ( بين ) دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف . والتقدير : بينهم وبينَ المؤمنين ، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين ، فإنه يكثر أن يقال : بين كذا وبين كذا ، قال تعالى : { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } [ سبأ : 54 ] .
ومعنى { سَبَقَتْ } أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته .
والأجلُ المسمى : جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله . وأما ضمير { وإنَّهُمْ لَفِي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ } فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين .
والريب : الشك ، فوصف { شَكّ } ب { مُرِيبٍ } من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم : لَيلٌ أَلْيل وشِعْرٌ شَاعر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد آتينا موسى الكتاب}: أعطينا موسى التوراة.
{ولولا كلمة سبقت من ربك} وهي كلمة الفصل بتأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى، يعني يوم القيامة، يقول: لولا ذلك الأجل، {لقضي} يعني بين الذين آمنوا وبين الذين اختلفوا وكفروا بالكتاب، لولا ذلك الأجل، لنزل بهم العذاب في الدنيا.
{بينهم وإنهم لفي شك منه} يعني من الكتاب.
{مريب} يعني أنهم لا يعرفون شكهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الكِتابَ" يا محمد، يعني التوراة، كما آتيناك الفرقان، "فاخْتُلِفَ فِيهِ "يقول: فاختلف في العمل بما فيه الذين أوتوه من اليهود. "وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنِهُمْ" يقول: ولولا ما سبق من قضاء الله وحكمه فيهم أنه أخر عذابهم إلى يوم القيامة لقضي بينهم يقول: لعجل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاكه المبطلين منهم...
وقوله: "وإنّهُمْ لَفِي شَكّ مِنْهُ مُرِيبٍ" يقول: وإن الفريق المبطل منهم لفي شكّ مما قالوا فيه "مُريب" يقول: يريبهم قولهم فيه ما قالوا، لأنهم قالوا بغير ثبت، وإنما قالوه ظنّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأنه يقول، والله أعلم: إنا قد آتينا موسى الكتاب ما عرفوا أنه إنما نزل من عند الله تعالى حين شاهدوا نزوله جملة. ومع أنهم عرفوا ذلك اختلفوا فيه حتى كذّبه بعضهم. فعلى ذلك يقول، والله أعلم: لو أنزلنا القرآن عليك أعجميا، فأدّيته إليهم بلسانك العربيّ لكذّبوك ولا يصدّقونك، وإن كان ذلك في الدلالة أكثر في الأعجوبة وأعظم على ما فعل قوم موسى بالكتاب الذي أُنزل على موسى عليه السلام يذكر سفههم وتعنّتهم.
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} ظاهر هذه الآية على أن ما ذكر من المِنّة والرحمة في تأخير العذاب، إنما هو لقوم موسى، وهو قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} لكن أهل التأويل قد أجمعوا على صرف هذه المنّة والرحمة في تأخير العذاب إلى هذه الأمة، وكذا فيهم ظهرت المنّة في العفو عن الإهلاك في الدنيا دون سائر الأمم.
ثم ظاهر قوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} استدلال واحتجاج لأهل الإلحاد؛ لأن مثل هذا في الشاهد إنما يقال لأحد معنيين. إما لجهل بالعواقب وإما لعجز عن وفاء ما وعد. لكن الله، يتعالى عن الوصف بالجهل بعواقب الأمور والوصف بالعجز عن شيء، بما أقام من الآيات والبراهين على العلم والقدرة.
{ولولا كلمة سبقت من ربك} تحتمل الكلمة الحجة كقوله تعالى: {قل لو كان البحر مِدادًا لكلمات ربي} [الكهف: 109] أي لحجج ربي، وتكون الكلمة منه الدين كقوله تعالى: {وكلمة الله هي العليا} [التوبة: 40] ونحوه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} كما آتيناك الكتاب، فصنع به الناس ما صنعوا معك، اختلفوا فيه: فمنهم من آمن به واهتدى وانتفع، ومنهم من كذبه ولم ينتفع به، وإن اللّه تعالى، لولا حلمه وكلمته السابقة، بتأخير العذاب إلى أجل مسمى لا يتقدم عليه ولا يتأخر {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بمجرد ما يتميز المؤمنون من الكافرين، بإهلاك الكافرين في الحال، لأن سبب الهلاك قد وجب وحق. {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي: قد بلغ بهم إلى الريب الذي يقلقهم، فلذلك كذبوه وجحدوه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ} والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين: اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثلُ قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافاً عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} [البقرة: 253]، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن، وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال: {وإنا له لحافظون} [يوسف: 12] فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع، وهذا ناظر إلى قوله آنفاً: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} [فصلت: 43] على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم.
{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مريب} هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن الله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمتُه، فأَما قوم موسى فقد قضَى بينهم باستئصال قوم فرعون، وبتمثيل الأشوريين باليهود بعد موسى، وبخراب بيت المقدس، وزوال ملك إسرائيل آخراً. وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر.
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين، والإِمهالِ إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر.
والتعبير عن الجلالة بلفظ {رَبِّكَ} لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف. وكلا الأمرين تعزيز للتسلية.
ولك أن تجعل كلمة (بين) دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف. والتقدير: بينهم وبينَ المؤمنين، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين، فإنه يكثر أن يقال: بين كذا وبين كذا، قال تعالى: {وحيل بينهم وبين ما يشتهون} [سبأ: 54].
ومعنى {سَبَقَتْ} أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته.
والأجلُ المسمى: جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله.
وأما ضمير {وإنَّهُمْ لَفِي شَكَ مِنْهُ مُرِيبٍ} فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين.
والريب: الشك، فوصف {شَكّ} ب {مُرِيبٍ} من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم: لَيلٌ أَلْيل وشِعْرٌ شَاعر.