{ 92 } { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ }
طاعة الله وطاعة رسوله واحدة ، فمن أطاع الله ، فقد أطاع الرسول ، ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله . وذلك شامل للقيام بما أمر الله به ورسوله من الأعمال ، والأقوال الظاهرة والباطنة ، الواجبة والمستحبة ، المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه كذلك .
وهذا الأمر أعم الأوامر ، فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي ، ظاهر وباطن ، وقوله : { وَاحْذَرُوا } أي : من معصية الله ومعصية رسوله ، فإن في ذلك الشر والخسران المبين . { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } عما أمرتم به ونهيتم عنه . { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وقد أدى ذلك . فإن اهتديتم فلأنفسكم ، وإن أسأتم فعليها ، والله هو الذي يحاسبكم ، والرسول قد أدى ما عليه وما حمل به .
{ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا } .
أي : اجتنبوا - أيها المؤمنون - هذه الرذائل وانتهوا عنها فقد بينت كلم مضارها ، { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } في جميع ما أمرا به ونيها عنه { واحذروا } مخالفتهما ، لأن مخالفة أوامرهما تؤدي إلى الحسرة والخسران .
وأمر - سبحانه - بطاعته وبطاعته رسوله مع أن طاعة رسوله طاعة له - سبحانه - لتأكيد الدعوة إلى هذه الطاعة ، ولتكريم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعلت طاعته مجاورة لطاعة الله - تعالى - .
وقوله : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } تأكيد للتحذير السابق وتنبيه إلى سوء عاقبة العاصين لأمر الله ورسوله .
وجواب الشرط محذوف والتقدير : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول - أيها المؤمنون - واحذوار مخالفة أمرهما ، فإن توليتم وأعرضتم عن طاعتهما ، فقد وقعتم في الخطيئة وستعاقبون عليها عقاب شديدا ، واعلموا أنه ليس على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم سوى التبليغ الواضح الين عن الله - تعالى - أما الحساب والجزاء ، والثواب والعقاب فمن الله وحده .
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا من التأكيدات ، وألوانا من التهديدات التي تدعو إلى اجتناب الخمر والميسر اجتنابا تاما وتركهما تركا لا عودة بعده إليهما .
وقد وضح صاحب الكشاف هذا المعنى بقوله : أكد - سبحانه - تحريم الخمر والميسر بوجه من التأكيد .
ومنها : قرنهما بعبادة الأصنام ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم " شارب الخمر كعابد الوثن " .
ومنها : أنه جعلهما رجسا كما قال - تعالى { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } ومنها : أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان ، لا يأتي منه إلا الشر البحت .
ومنها : أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب .
ومنها : أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً ، كان الارتكاب خيبة وخسراناً .
ومنها : أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال - وهو وقوع التعادي والتباغض - وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة .
ومنها : قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فهو من أبلبغ ما ينهى به ، كأنه قيل : قد تلى عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم باقون على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا .
هذا ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتي :
1 - أن هذه الآيات الكريمة هي آخر ما نزل في القرآن الكريم لتحريم الخمر تحريما قاطعاً لأن التعبير بالانتهاء والأمر به فيه إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم .
قال القرطبي : تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة . فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأن الخمر قوله - تعالى -
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي : في تجارتهم . فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس . وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة فيما يشغلنا عن الصلاة وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة ، حتى نزلت : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } الآية . فصارت حراماً عليهم حتى صار بعضهم يقول : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر .
وأخرج عبد بن حميد عن الربيع أنه قال : لما نزلت آية البقرة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم يقدم في تحريم الخمر " ، ثم نزلت آية في سورة النساء : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } فقال صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم يقدم في تحريم الخمر " ثم نزلت آية المائدة : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } فحرمت عند ذلك .
ولما سمع عمر قوله - تعالى - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال : انتهينا يا رب .
ولا شك في أن تدرج القرآن في تحريم الخمر يدل دلالة واضحة على رحمة الله - تعالى - بعباده المؤمنين وتربية حكيمة حتى يقلعوا عما تعودوه بسهولة ويسر وذلك لأن شرب الخمر كان من العادات المتأصلة في النفوس ويكفي للدلالة على حب العرب لها قول أنس بن مالك : حرمت الخمر ولم يكن للعرب عيش أعجب منها . وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر .
ولقد كان موقف الصحابة من هذا التحريم لما يحبونه ويشتهونه ، يمثل اسمى ألوان الطاعة والاستجابة لأمر الله - تعالى - فعندما بلغهم تحريم الخمر أراقوا ما عندهم منها في الطرقات ، بل وحطموا الأواني التي كانت توضع فيها الخمر .
أخرج البخاري عن أنس قال : كنت ساقي القوم فيث منزل أبي طلحة ، وكان خمرهم يومئذ الفضيح - أي : نقيع البسر فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي " ألا إن الخمر قد حرمت " .
قال : فقال لي أبو طلحة : أخرج فأهرقه . قال : فخرجت فهرقتها فجرت في شكك المدينة .
وأخرج ابن جرير عن قتادة عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي دجانة حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعنا مناديا ينادي : إن الخمر قد حرمت . قال : لما دخل علينا داخل ولا خرج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضاً بعضنا ، واغتسل بعضنا ثم خرجنا إلى المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } .
. إلى قوله { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .
فقال رجل لقتادة : سمعته من أنس بن مالك ؟ قال : نعم وقال رجل لأنس أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . وحدثني من لم يكذب : والله ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب .
وأخرج ابن جرير - أيضاً - عن أبي برريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ، ونحن نشرب الخمر حلا ، إذ قمت حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وقد نزل تحريم الخمر { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } . . الآيات . فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم ، إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض الإِناء ، فقال بالإِناء تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجام . ثم صبوا ما في باطينهم ، فقالوا : انتهينا ربنا ، انتهينا ربنا .
وهكذا ترى أن قوة الإِيمان التي غرسها الإِسلام في نفوس اتباعه عن طريق تعاليمه الحكيمة وتربيته السامية . قد تغلبت على ما أحبته النفوس وأزالت من القلوب ما ألفته الطبائع إلفا شديداً
2 - أن كلمة خمر اسم خامر العقل وغطاه من الأشربة المسكرة ؛ سواء كانت من عصير العنب ، أم من الشعير ، أم من التمر ، أم من ذلك وكلها سواء في التحريم قل المشروب منها أو كثر ، سكر شاربها أو لم يسكر ، وأن على الشارب حد الشرب في الجميع .
وبهذا القول قال جمهور العلماء : ومن أدلتهم النقلية ما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال : خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد نزل تحريم الخمر وهي خمسة أشياء : " العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل " .
وأخرج أيضاً عن عائشة قالت : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم عن البتع - وهو نبيذ العسل - وكان أهل اليمن يشربونه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل ما أسكر فهو حرام " " .
وأخرج كذلك عن أنس قال : " حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد - يعني بالمدينة - خمر الأعناب إلا قليلا ، وعامة خمرنا البسر والتمر " .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في أن ما أسكر من هذه الأشربة المأخوذة من التمر أو الحنطة أو الشعير أو العنب يسمى خمراً .
ومن أدلتهم العقلية الاشتقاق اللغوي لكلمة خمر ، فقد عرفنا أنها سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل وستره ، فكل ما خامر العقل من الأشربة وجب أن يطلق عليه لفظ خمر سواء أكان من العنب أم من غيره .
ويرى الأحناف ووافقهم بعض العلماء كإبراهيم النخعي ، وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى : أن كلمة خمر لا تطلق إلا على الشراب المسكر من عصير العنب فقط .
أما المسكر من غيره كالشراب الذي من التمر والشعير فلا يسمى خمرا بل يسمى نبيذاً .
ومن حججهم أن الخمر حرمت ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب ، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط . وما وجد فيه مخامرة للعقل من غير هذا النوع لا يسمى خمراً : لأن اللغة لا تثبت من طريق القياس .
وقد ورد عن ابن عمر أنه قال : " حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " .
ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر ، فدل على أن ابن عمر - وهو عربي - ما كان يرى أن اسم الخمر يتناول هذين .
ويقول الأحناف ومن وافقهم : إن الأحاديث التي استشهد بها الجهور على أن الخمر اسم لكل مسكر من عصير العنب أو غيره هذه الأحاديث لبيان الحكم الشرعي ، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة وهي الإِسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء .
وقد ابتنى على هذا الخلاف بين الجمهور والأحناف أحكام أخرى تتعلق بنجاسة هذه الأشياء ، وبوجوب إقامة الحد على شاربها . . إلخ وتفصيل هذه الأحكام يرجع فيه إلى الكتب الفقه وأصوله .
هذا ، وقد رجح المحققون من العلماء ما ذهب إليه الجمهور وضعفوا ما ذهب إليه الأحناف ومن وافقهم .
قال ابن العربي : وتعلق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة فلا يلتفت إليها والصحيح ما رواه الأئمة أن أنسا قال : " حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلا القليل ، وعامة خمرها البسر والتمر " .
واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يؤمئذ خمر عنب وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ فكسروا دنانهم - أي : أواني الخمر - وبادروا إلى الامتثال لاعتقادهم أن ذلك كله خمر - أي : وأقرهم رسول الله على لذلك .
وقال الآلوسي : وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده فهو حرام ، وقليله ككثيره ، ويحد شاربه ويقع طلاقه ، ونجاسته غليظة . وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع - وهو نبيذ العسل - فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " .
وصح عنه صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " والأحاديث متضافرة على ذلك .
ولعمري إن اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ، ورغبتهم فيها ، فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير . وقد وضعوا لها أسماء - كالعنبرية والأكسير - ونحوهما ، ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة ، وتبيح شربها للأمة - وهيهات هيهات - فالأمر وراء ما يظنون وإنا لله وإنا إليه راجعون .
3 - قال القرطبي ما ملخصه : " فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها " .
وخالفهم في ذلك - ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي . وبعض المتأخرين من البغدادين والقرويين فرأوا أنها طاهرة وأن المحرم إنما هو شربها .
والصحيح ما عليه الجمهور لأن وصفها بأنها { رِجْسٌ } يدل على نجاستها فإن الرجس في اللسان النجاسة .
وقوله : { فاجتنبوه } يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في هذا الباب .
روى مسلم عن ابن عباس " أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، - أي قربة خمر - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل علمت أن الله حرمها " قال : لا . قال : فسارَّ رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " بم ساررته " ؟ قال : أمرته أن يبيعها ، فقال : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " " .
ثم قال القرطبي : وهذه الآيات تدل على أن كل لهو دعا قليلة إلى كثيرة ، وأوقع العداوة والبغضاء بين العاكفين عليه ، وصد عن ذكر الله وعن الصلاة فهو كشرب الخمر ، ووجب أن يكون حراماً مثله .
4 - هذه الآيات الكريمة تدل على تأكيد تحريم الخمر وما ذكر معها من رذائل ، كما تدل على تحريم ما تؤدي إليه من مفاسد ومضار ، وما يحيق بمرتكبها من سوء عاقبة .
وقد ساق ابن كثير عند تفسير لهذه الآيات جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، ومن هذه الأحاديث ما رواه الإِمام أحمد عن ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنت الخمر على عشرة أوجه : " لعنت الخمر بعينها ، وشاربها ، وساقيها وبائعها ومبتاعها ، وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها " " .
وقال ابن وهب - قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمدمن الخمر ، والمنان بما أعطى " .
وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحاً ، فإن تاب ؛ تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقّاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم : صديد أهل النار " .
هذا جانب من الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآيات الكريمة ، ومن الأحاديث التي وردت في حرمة الخمر وفي سوء مصير شاربها .
ولكن السياق يمضي بعد ذلك يوقع إيقاعه الكبير :
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا . فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) . .
إنها القاعدة التي يرجع إليها الأمر كله : طاعة الله وطاعة الرسول . . الإسلام . . الذي لا تبقى معه إلا الطاعة المطلقة لله وللرسول . . والحذر من المخالفة ، والتهديد الملفوف :
( فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) . .
وقد بلغ وبين ، فتحددت التبعة على المخالفين ، بعد البلاغ المبين . .
إنه التهديد القاصم ، في هذا الأسلوب الملفوف ، الذي ترتعد له فرائص المؤمنين ! . . إنهم حين يعصون ولا يطيعون لا يضرون أحدا إلا أنفسهم . لقد بلغ الرسول [ ص ] وأدى ؛ ولقد نفض يديه من أمرهم إذن فما هو بمسؤول عنهم ، وما هو بدافع عنهم عذابا - وقد عصوه ولم يطيعوه - ولقد صار أمرهم كله إلى الله سبحانه . وهو القادر على مجازاة العصاة المتولين !
إنه المنهج الرباني يطرق القلوب ، فتنفتح له مغاليقها ، وتتكشف له فيها المسالك
ولعله يحسن هنا أن نبين ما هي الخمر التي نزل فيها هذا النهي :
أخرج أبو داود بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " كل مخمر خمر . وكل مسكر حرام " . .
وخطب عمر - رضي الله عنه - على منبر النبي [ ص ] بمحضر جماعة من الصحابة فقال : " يا أيها الناس قد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير . والخمر ما خامر العقل " . . [ ذكره القرطبي في تفسيره ] .
فدل هذا وذلك على أن الخمر تشمل كل مخمر يحدث السكر . . وأنه ليس مقصورا على نوع بعينه . وأن كل ما أسكر فهو حرام . إن غيبوبه السكر - بأي مسكر - تنافي اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم ليكون موصولا بالله في كل لحظة ، مراقبا لله في كل خطرة . ثم ليكون بهذه اليقظة عاملا إيجابيا في نماء الحياة وتجددها ، وفي صيانتها من الضعف والفساد ، وفي حماية نفسه وماله وعرضه ، وحماية أمن الجماعة المسلمة وشريعتها ونظامها من كل اعتداء . والفرد المسلم ليس متروكا لذاته وللذاته ؛ فعلية في كل لحظة تكاليف تستوجب اليقظة الدائمة . تكاليف لربه ، وتكاليف لنفسه ، وتكاليف لأهله ، وتكاليف للجماعة المسلمة التي يعيش فيها ، وتكاليف للإنسانية كلها ليدعوها ويهديها . وهو مطالب باليقظة الدائمة لينهض بهذه التكاليف . وحتى حين يستمتع بالطيبات فإن الإسلام يحتم عليه أن يكون يقظا لهذا المتاع ، فلا يصبح عبدا لشهوة أو لذة . إنما يسيطر دائما على رغباته فيلبيها تلبية المالك لأمره . . وغيبوبة السكر لا تتفق في شيء مع هذا الاتجاه .
ثم إن هذه الغيبوبة في حقيقتها إن هي إلا هروب من واقع الحياة في فترة من الفترات ؛ وجنوح إلى التصورات التي تثيرها النشوة أو الخمار . والإسلام ينكر على الإنسان هذا الطريق ويريد من الناس أن يروا الحقائق ، وأن يواجهوها ، ويعيشوا فيها ، ويصرفوا حياتهم وفقها ، ولا يقيموا هذه الحياة على تصورات وأوهام . . إن مواجهة الحقائق هي محك العزيمة والإرادة ؛ أما الهروب منها إلى تصورات وأوهام فهو طريق التحلل ، ووهن العزيمة ، وتذاوب الإرادة . والإسلام يجعل في حسابه دائما تربية الإرادة ، وإطلاقها من قيود العادة القاهرة . . الإدمان . . وهذا الاعتبار كاف وحده من وجهة النظر الإسلامية لتحريم الخمر وتحريم سائر المخدرات . . وهي رجس من عمل الشيطان . . مفسد لحياة الانسان .
وقد اختلف الفقهاء في اعتبار ذات الخمر نجسة كبقية النجاسات الحسية . أو في اعتبار شربها هو المحرم . والأول قول الجمهور والثاني قول ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين . . وحسبنا هذا القدر في سياق الظلال .
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }
ذكر الأحاديث الواردة في [ بيان ]{[10289]} تحريم الخمر :
قال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج{[10290]} حدثنا أبو مَعْشَر ، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة ، عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إلى آخر الآية [ البقرة : 219 ] . فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أمَّ أصحابه{[10291]} في المغرب ، خلط في قراءته ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[10292]} آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] وكان الناس يشربون ، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق . ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا : انتهينا ربنا . وقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله ، [ وناس ]{[10293]} ماتوا على سرفهم{[10294]} كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلى آخر الآية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم " . انفرد به أحمد . {[10295]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مَيْسَرة ، عن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[10296]} أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان{[10297]} منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا . {[10298]}
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة - واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني - عن عُمَر ، به . وليس له عنه سواه ، قال أبو زُرْعَة : ولم يسمع منه . وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي . {[10299]}
وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحِنْطَة ، والشعير ، والخمر ما خامر العقل . {[10300]}
وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن بِشْر ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، حدثني نافع ، عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب . {[10301]}
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن المصري - يعني أبا طعمة قارئ مصر - قال : سمعت ابن عمر يقول : نزلت في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء نزل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية [ البقرة : 219 ] فقيل : حرمت الخمر . فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها كما قال الله تعالى . قال : فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [ النساء : 43 ] . فقيل : حرمت الخمر ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ثم نزلت :{[10302]} { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حرمت الخمر " . {[10303]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن القعقاع بن حكيم ؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر ، فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف - أو : من دوس - فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، أما علمت أن الله حرمها ؟ " فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا فلان ، بماذا أمرته ؟ " فقال : أمرته أن يبيعها . قال : " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " . فأمر بها فأفرغت في البطحاء .
رواه مسلم من طريق ابن وَهْب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم . ومن طريق ابن وهب أيضًا ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد كلاهما - عن عبد الرحمن بن وَعْلَة ، عن ابن عباس ، به . ورواه النسائي ، عن قتيبة ، عن مالك ، به . {[10304]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية{[10305]} من خمر ، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : " إنها قد حرمت بعدك " . قال : يا رسول الله ، فأبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم ، فأذابوه ، وباعوه ، والله حَرّم الخمر وثمنها " . {[10306]}
وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال : حدثنا رَوْح ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال : سمعت شهر بن حوشب قال : حدثني عبد الرحمن بن غَنْم : أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر ، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية ، فلما نظر إليه ضحك فقال{[10307]} أشعرت أنها حرمت بعدك ؟ " فقال : يا رسول الله ، ألا{[10308]} أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله اليهود ، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه ، فباعوه به ما يأكلون ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام " . {[10309]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره{[10310]} أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق ، يريد بها التجارة ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني جئتك بشراب طيب{[10311]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا كيسان ، إنها قد حرمت بعدك " . قال : فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنها قد حرمت وحرم ثمنها " . فانطلق كيسان إلى الزقاق ، فأخذ بأرجلها ثم هراقها . {[10312]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيي بن سعيد ، عن حميد ، عن{[10313]} أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبي بن كَعْب ، وسُهَيْل بن بيضاء ، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم ، حتى كاد الشراب يأخذ منهم ، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فما قالوا : حتى ننظر ونسأل ، فقالوا : يا أنس اكف ما بقي في إنائك ، فوالله{[10314]} ما عادوا فيها ، وما هي إلا التمر والبسر ، وهي خمرهم يومئذ . {[10315]}
أخرجاه في الصحيحين - من غير وجه - عن أنس{[10316]} وفي رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ ، فإذا مناد ينادي ، قال : اخرج فانظر . فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ، فَجرت في سِكَكِ المدينة ، قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فَأهْرقها . فهرقتها ، فقالوا - أو : قال بعضهم : قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم . قال : فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية . {[10317]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد{[10318]} حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دُجَانة ، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر . فسمعت مناديًا ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ] }{[10319]} الآية ، فقال رجل لقتادة : أنت سَمعتَه من أنس بن مالك ؟ قال : نعم . وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم - أو : حدثني من لم يكذب ، ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب . {[10320]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن بكر بن سوادة ، عن قيس بن سعد بن عبادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر ، والكُوبَة ، والقنّين . وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم " . {[10321]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا فرج بن فضالة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع{[10322]} عن أبيه ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر ، والكُوبة والقِنّين . وزادني صلاة الوتر " . قال يزيد : القنين : البرابط . تفرد به أحمد . {[10323]}
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو عاصم - وهو النبيل - أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم " . قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء ، وكل مسكر حرام " . تفرد به أحمد أيضا{[10324]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي طعمة - مولاهم - وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعنت الخمر على عشرة وجوه : لعنت الخمر بعينها وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومُبتاعها ، وعاصرها ، ومُعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها " .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث وكيع ، به . {[10325]}
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو طِعْمة ، سمعت ابن عمر يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد ، فخرجت معه فكنت عن يمينه ، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه ، فكان عن يمينه وكنت عن يساره . ثم أقبل عمر فتنحيت له ، فكان عن يساره . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر - قال ابن عمر - : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : " لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها " . {[10326]}
وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة ، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال : " اغد عليَّ بها " . ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته . {[10327]}
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهب : أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، وابن لَهِيعة ، والليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره : أنه كان له عم يبيع الخمر ، وكان يتصدق ، فنهيته عنها فلم ينته ، فقدمت المدينة فتلقيت{[10328]} ابن عباس ، فسألته عن الخمر وثمنها ، فقال : هي حرام وثمنها حرام . ثم قال ابن عباس ، رضي الله عنه : يا معشر أمة محمد ، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ، ونبي بعد نبيكم ، لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم ، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ، ولَعمري لهو أشد عليكم ، قال ثابت : فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر ، فقال : سأخبرك عن الخمر ، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال : " من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها " . فجعلوا يأتونه ، فيقول أحدهم : عندي راوية . ويقول الآخر : عندي زقٌّ أو : ما شاء الله أن يكون عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني " . ففعلوا ، ثم آذنوه فقام وقمت معه ، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ ، فألحقنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلني عن شماله ، وجعل أبا{[10329]} بكر في مكاني . ثم لحقنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه فأخرني ، وجعله عن يساره ، فمشى بينهما . حتى إذا وقف على الخمر قال للناس : " أتعرفون هذه{[10330]} قالوا : نعم ، يا رسول الله ، هذه الخمر . قال : " صدقتم " . قال : " فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وشاربها وساقيها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها " . ثم دعا بسكين فقال : " اشحذوها " . ففعلوا ، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق ، قال : فقال الناس : في هذه الزقاق منفعة ، قال : " أجل ، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله ، عز وجل ، لما فيها من سخطه " . فقال عمر : أنا أكفيك يا رسول الله ؟ قال : " لا " .
قال ابن وَهْب : وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث . رواه البيهقي . {[10331]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شُعْبَة ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزلت في الخمر أربع آيات ، فذكر الحديث . قال : وضع رجل من الأنصار طعامًا ، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا ، فتفاخرنا ، فقالت الأنصار : نحن أفضل . وقالت قريش : نحن أفضل . فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور ، فضرب به أنف سعد ففزره ، وكان أنف سعد مفزورًا . {[10332]} فنزلت آية الخمر : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ ] }{[10333]} إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أخرجه مسلم من حديث شعبة . {[10334]}
حديث آخر : قال البيهقي : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنبأنا أبو علي الرفاء ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع هذا بي ، أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن{[10335]} والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي ، حتى وقعت{[10336]} الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ]{[10337]} فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ] }{[10338]}
ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة ، عن حجاج بن منهال . {[10339]}
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني محمد بن خَلَف ، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي ، عن أبي تُمَيْلَة ، عن سلام مولى حفص أبي القاسم ، عن أبي بريدة ، عن أبيه قال : بينا نحن قُعُود على شراب لنا ، ونحن رَمْلة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، إذ نزل تحريم الخمر : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى آخر الآيتين{[10340]} { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون } ؟ قال : وبعض القوم شَربته في يده ، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم{[10341]} فقالوا : انتهينا ربنا . {[10342]}
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا صَدَقة بن الفضل ، أخبرنا ابن عُيَينة ، عن عمرو ، عن جابر قال : صَبَّح ناس غداة أحد الخمر ، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء ، وذلك قبل تحريمها .
هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه{[10343]} وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن عَبْدة ، حدثنا سفيان ، عن{[10344]} عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم . فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ثم قال : وهذا إسناد صحيح . وهو كما قال ، ولكن في سياقته غرابة .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية .
ورواه الترمذي ، عن بُنْدار ، غُنْدَر{[10345]} عن شعبة ، به نحو . وقال : حسن صحيح . {[10346]}
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا جعفر بن حميد الكوفي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن عيسى بن جارية ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين ، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة ، فلقيه رجل من المسلمين فقال : يا فلان ، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ ، وسجى عليها بأكسية ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال : " أجل " قال : لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال : " لا يصلح{[10347]} ردها " . قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال : " لا " . قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري ؟ قال : " إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم " . ثم نادى بالمدينة ، فقال رجل : يا رسول الله ، الأوعية ننتفع بها ؟ . قال : " فَحُلُّوا أوكيتها " . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب . {[10348]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن السُّدِّي ، عن أبي هُبيرة - وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري - عن أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال : " أهرقها " . قال : أفلا نجعلها خلا ؟ قال : " لا " .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، من حديث الثوري ، به نحوه . {[10349]}
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجاء ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا هلال بن أبي هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن هذه الآية التي في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال : هي في التوراة : " إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ، ويبطل به اللعب ، والمزامير ، والزَّفْن ، والكِبَارات - يعني البرابط - - والزمارات - يعني به الدف - والطنابير - والشعر ، والخمر مرة لمن طعمها . أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه{[10350]} يوم القيامة ، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس " .
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهْب : أخبرني عمرو بن الحارث ؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة ، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " . قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : " عصارة أهل جهنم " .
ورواه أحمد ، من طريق عمرو بن شعيب . {[10351]}
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني ، قال : سمعت النعمان - هو ابن أبي شيبة الجَنَدي - يقول عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل مَخمَّر خَمْر ، وكل مُسْكِر حَرَام ، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال " . قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله قال : " صديد أهل النار ، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال "
تفرد أبو داود . {[10352]}
حديث آخر : قال الشافعي ، رحمه الله : أنبأنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة " .
أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث مالك ، به . {[10353]}
وروى مسلم عن أبي الربيع ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مُسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " . {[10354]}
حديث آخر : قال ابن وَهْب : أخبرني عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يَسار ؛ أنه سمع سالم بن عبد الله يقول : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ، والمُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى " .
ورواه النسائي ، عن عمر بن علي ، عن يزيد بن زُرَيْع ، عن عمر بن محمد العُمَري ، به . {[10355]}
وروى أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق ، ولا مُدْمِن خمر " . {[10356]}
ورواه أحمد أيضًا ، عن عبد الصمد ، عن عبد العزيز بن مسلم{[10357]} عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، به . وعن مروان بن شجاع ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، به{[10358]} ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا ، عن الحسين الجَعْفِي ، عن زائدة ، عن بن ابن أبي زياد ، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد ، كلاهما عن أبي سعيد ، به . {[10359]}
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة عاق ، ولا مُدْمِن خمر ، ولا منَّان ، ولا ولد زنْيَة " . {[10360]}
وكذا رواه عن يزيد ، عن همام ، عن منصور ، عن سالم ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، به{[10361]} وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن نُبَيْط بن شُرَيط ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يدخل الجنة منان ، ولا عاق والديه ، ولا مدمن خمر " .
ورواه النسائي ، من حديث شعبة كذلك ، ثم قال : ولا نعلم{[10362]} أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط . {[10363]}
وقال البخاري : لا يعرف لجابان سماع من عبد الله ، ولا لسالم من جابان ولا نبيط .
وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد ، عن ابن عباس - ومن طريقه أيضًا ، عن أبي هريرة ، فالله أعلم .
وقال الزهري : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : اجتنبوا الخمر ، فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس ، فَعَلقته امرأة غَوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنا ندعوك لشهادة . فدخل معها ، فطفقت كلما دخل بابًا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام ، أو تشرب هذا الخمر . فسقته كأسًا ، فقال : زيدوني ، فلم يَرِم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه .
رواه البيهقي{[10364]} وهذا إسناد صحيح . وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه " ذم المسكر " عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، عن الفضيل بن سليمان النميري ، عن عمر بن سعيد ، عن الزهري ، به مرفوعًا{[10365]} والموقوف أصح ، والله أعلم .
وله شاهد في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " . {[10366]}
وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن سِماك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : لما حرمت الخمر قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية . قال : ولما حُوّلت القبلة قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ{[10367]} } [ البقرة : 143 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا داود - يعني العطار - عن ابن خُثَيْم ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة ، إن مات مات كافرًا ، وإن تاب تاب الله عليه . وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال " . قالت : قلت : يا رسول الله ، وما طينة الخبال ؟ قال : " صديد أهل النار " . {[10368]}
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قيل لي : أنت منهم " .
وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من طريقه . {[10369]}
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : قرأت على أبي ، حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجرا{[10370]} زجرًا ، فإنهما مَيْسِر العَجَم " . {[10371]}
عطفت جملة { وأطيعوا } على جملة { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ، وهي كالتذييل ، لأنّ طاعة الله ورسوله تعمّ ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعمّ غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب . وكرّر { وأطيعوا } اهتماماً بالأمر بالطاعة . وعطف { واحذَروا } على { أطيعوا } أي وكونوا على حذر . وحذف مفعول { احذروا } ليُنَزّلَ الفعلُ منزلة اللازم لأنّ القصد التلبّس بالحذر في أمور الدين ، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله ، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما ، لأنّ الفعل اللازم يقرُب معناه من معنى أفعال السجايا ، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زِنة فَعِلٍ كفرِح ونَهِمٍ .
وقوله : { فإن تولّيتم } تفريع عن { أطيعوا واحذروا } . والتولّي هنا استعارة للعصيان ، شُبّه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصِي ، بجامع المقاطعة والمفارقة ، وكذلك يطلق عليه الإدبار . ففي حديث ابن صياد « ولئنْ أدْبَرْتَ ليَعْقَرَنَّك الله » أي أعرضتَ عن الإسلام .
وقوله : { فاعلموا } هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأنّ المعنى : فإن تولّيتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضرّ تولّيكم الرسولَ لأنّ عليه البلاغ فحسب ، أي وإنّما يضرّكم تولّيكم ، ولولا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولّي وبين علمهم أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلاّ بالتبليغ . وذكر فعل { فاعلموا } للتنبيه على أهمية الخبر كما بيّنّاه عند قوله تعالى : { واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه } في سورة البقرة ( 223 ) .
وكلمة { أنّما } بفتح الهمزة تقيّد الحصر ، مثل ( إنّما ) المكسورةِ الهمزة ، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتّفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنّها فرع عن المكسورة إذ هي أختها . ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر ، والمعنى أنّ أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلّغ إليهم .
وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنّه رسول من القادر على كلّ شيء ، فلو شاء مُرسله لهَدَى المرسَلَ إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول .
ووصفُ البلاغ ب { المُبين } استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مُؤيَّداً بالحجّة الساطعة .