ومن جملة أقاويلهم فيه أن قالوا : هذا الذي جاء به محمد { أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا ْ } أي : هذا قصص الأولين وأساطيرهم التي تتلقاها الأفواه وينقلها كل أحد استنسخها محمد { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ْ } وهذا القول منهم فيه عدة عظائم :
منها : رميهم الرسول الذي هو أبر الناس وأصدقهم بالكذب والجرأة العظيمة .
ومنها : إخبارهم عن هذا القرآن الذي هو أصدق الكلام وأعظمه وأجله - بأنه كذب وافتراء .
ومنها : أن في ضمن ذلك أنهم قادرون أن يأتوا بمثله وأن يضاهي المخلوق الناقص من كل وجه للخالق الكامل من كل وجه بصفة من صفاته ، وهي الكلام .
ومنها : أن الرسول قد علمت حالته وهم أشد الناس علما بها ، أنه لا يكتب ولا يجتمع بمن يكتب له وقد زعموا ذلك .
ثم حكى - سبحانه - مقولة أخرى من مقولاتهم الفاسدة فقال : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } .
والأساطير : جمع أسطورة بمعنى أكذوبة واكتتبها : أى : أمر غيره بكتابتها له . أو جمعها من بطون كتب السابقين .
أى : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بقولهم السابق فى شأن القرآن ، بل أضافوا إلى ذلك قولا آخر أشد شناعة وقبحا ، وهو زعمهم أن هذا القرآن أكاذيب الأولين وخرافاتهم ، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غيره بكتابتها له ، وبجمعها من كتب السابقين { فَهِيَ } أى : هذه الأساطير { تملى عَلَيْهِ } أى : تلقى عليه صلى الله عليه وسلم بعد اكتتابها ليحفظها ويقرأها على أصحابه { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أى : فى الصباح والمساء أى : تملى عليه خفية فى الأوقات التى يكون الناس فيها نائمين أو غافلين عن رؤيتهم .
ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وعن القرآن : ( وقالوا : أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ) . .
ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأولين التي يسوقها للعبرة والعظة ، وللتربية والتوجيه ، فقالوا عن هذا القصص الصادق : ( أساطير الأولين )وزعموا أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] طلب أن تكتب له ، لتقرأ عليه في الصباح والمساء - إذ كان أميا لا يقرأ ولا يكتب - ثم يقولها هو بدوره ، وينسبها إلى الله ! وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس ، ولا تثبت للمناقشة . وإن سياقة القصص في القرآن بهذا التنسيق في عرضه ؛ وبهذا التناسق بينه وبين الموضوع الذي يساق فيه ، ويستشهد بالقصص عليه ؛ وبهذا التناسب بين أهداف القصص وأهداف السياق في السورة الواحدة . . إن هذا كله ليشهد بالقصد والتدبير العميق اللطيف الذي لا يلحظ في الأساطير المبعثرة التي لا تجمعها فكرة ، ولا يوجهها قصد ، إنما تساق للتسلية وتزجية الفراغ !
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } يعنون : كتب الأوائل استنسخها ، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : في أول النهار وآخره .
وهذا الكلام - لسخافته وكذبه وبهْته منهم - كُلّ أحد يعلم{[21401]} بطلانه ، فإنه قد عُلم بالتواتر وبالضرورة : أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه ، وصدقه ، وبره وأمانته ونزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة ، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث{[21402]} إلا الأمين ، لما يعلمون من صدقه وبره . فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها ، وحاروا ماذا يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر ، وتارة يقولون : شاعر ، وتارة يقولون : مجنون ، وتارة يقولون : كذاب ، قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48 ] .
وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا : { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىَ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنّهُ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } .
ذكر أن هذه الاَية نزلت في النّضْر بن الحارث ، وأنه المعنيّ بقوله : وَقالُوا أساطيرُ الأوّلِينَ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : كان النّضْر بن الحارث بن كَلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قُصيّ من شياطين قريش ، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قَدِم الحِيرة ، تعلّم بها أحاديث ملوك فارس وأحاديث رُسْتَم وأسفنديار ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا فذكّر بالله وحدّث قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلَفه في مجلسه إذا قام ، ثم يقول : أنا والله يا معشر قُريش أحسن حديثا منه ، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ثم يحدّثهم عن ملوك فارس ورسْتَم وأسفنديار ، ثم يقول : ما محمد أحسن حديثا مني قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في النضر ثمانيَ آيات من القرآن ، قوله : وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أساطيرُ الأوّلينَ وكلّ ما ذُكِر فيه الأساطير في القرآن .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس نحوه ، إلاّ أنه جعل قوله : «فأنزل الله في النضْر ثماني آيات » ، عن ابن إسحاق ، عن الكلْبيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : أساطِيرُ الأوّلينَ أشعارهم وكَهانتهم وقالها النضر بن الحارث .
فتأويل الكلام : وقال هؤلاء المشركون بالله الذين قالوا لهذا القرآن إن هذا إلاّ إفك افتراه محمد صلى الله عليه وسلم : هذا الذي جاءنا به محمد أساطير الأوّلين ، يَعنُون أحاديثهم التي كانوا يُسَطّرونها في كتبهم ، اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم من يهود . فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ يعنون بقوله : فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ فهذه الأساطير تُقرأ عليه ، من قولهم : أمليت عليك الكتاب وأملَلْت . بُكْرَةً وأصِيلاً يقول : وتملَى عليه غُدْوة وعشيّا .
وقوله { وقالوا أساطير الأولين } ، قال ابن عباس يعني بذلك قول النضر بن الحارث ، وذلك أن كل ما في القرآن من ذكر { أساطير الأوليين } فإنما هو بسبب قول النضر ابن الحارث حسب الحديث المشهور في ذلك ثم رموا محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه { اكتتبها } وقرأ طلحة بن مصرف «اكتُتِبها » بضم التاء الأولى وكسر الثانية على معنى اكتتب له ، ذكرها أبو الفتح{[8780]} ، وقرأ طلحة «تُتلى » بتاء بدل الميم .