{ 13 - 17 } { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
يذكر تعالى نعمه العظيمة على عباده ، بتبيين الحق من الباطل ، بما يُرِي عباده من آياته النفسية والآفاقية والقرآنية ، الدالة على كل مطلوب مقصود ، الموضحة للهدى من الضلال ، بحيث لا يبقى عند الناظر فيها والمتأمل لها أدنى شك في معرفة الحقائق ، وهذا من أكبر نعمه على عباده ، حيث لم يُبْقِ الحق مشتبهًا ولا الصواب ملتبسًا ، بل نوَّع الدلالات ووضح الآيات ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة وكلما كانت المسائل أجل وأكبر ، كانت الدلائل عليها أكثر وأيسر ، فانظر إلى التوحيد لما كانت مسألته من أكبر المسائل ، بل أكبرها ، كثرت الأدلة عليها العقلية والنقلية وتنوعت ، وضرب الله لها الأمثال وأكثر لها من الاستدلال ، ولهذا ذكرها في هذا الموضع ، ونبه على جملة من أدلتها فقال : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
ولما ذكر أنه يُرِي عباده آياته ، نبه على آية عظيمة فقال : { وينزل لكم من السماء رزقا } أي : مطرًا به ترزقون وتعيشون أنتم وبهائمكم ، وذلك يدل على أن النعم كلها منه ، فمنه نعم الدين ، وهي المسائل الدينية والأدلة عليها ، وما يتبع ذلك من العمل بها . والنعم الدنيوية كلها ، كالنعم الناشئة عن الغيث ، الذي تحيا به البلاد والعباد . وهذا يدل دلالة قاطعة أنه وحده هو المعبود ، الذي يتعين إخلاص الدين له ، كما أنه -وحده- المنعم .
{ وَمَا يَتَذَكَّرُ } بالآيات حين يذكر بها { إِلَّا مَنْ يُنِيبُ } إلى الله تعالى ، بالإقبال على محبته وخشيته وطاعته والتضرع إليه ، فهذا الذي ينتفع بالآيات ، وتصير رحمة في حقه ، ويزداد بها بصيرة .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على فضله ورحمته بعباده ، وعلى وحدانيته وكمال قدرته ، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، وعلى أن كل نفس ستجازى فى هذا اليوم بما كسبت بدون ظلم أو محاباة ، لأن القضاء فيه لله الواحد القهار . فقال - تعالى - :
{ هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ . . . }
المقصود بآياته - عز وجل - فى قوله : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ . . . } الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته ، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار ، والبحار والأنهار ، والسماء والأرض ، والمطر والرعد ، والنجوم والرياح ، والأشجار الكبيرة والصغيرة . . إلى غير ذلك من آياته التى لا تحصى فى هذا الوجود . .
أى : هو - سبحانه - الذى يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ، لتزدادوا - أيها المؤمنون - إيمانا على إيمانكم ، وثباتا على ثباتكم ، ويقينا على يقينكم ، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار .
وقد ساق - سبحانه - فى كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } وقوله عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ . . } وقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } والمراد بالرزق فى قوله : { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } . . الأمطار التى تنزل من السماء على الأرض ، فتحييها بعد موتها ، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة ، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار .
وأطلق - سبحانه - على المطر رزقا . لأنه سبب فيه ، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التى يريها - تعالى - لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته ، وجلائل نعمه ، الموجبة لشكره - عز وجل - ، ولوجوب إخلاص العبادة له .
وقوله - تعالى - : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات .
أى : وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإِيمان ، وعن العناد والجحود ، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم .
فقوله { يُنِيبُ } من الإِنابة ، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصى : إلى الإِيمان والطاعة .
وفي ظل هذا المشهد يستطرد إلى شيء من صفة الله تناسب موقف الاستعلاء ويوجه المؤمنين في هذا المقام إلى التوجه إليه بالدعاء ، موحدين ، مخلصين له الدين كما يشير إلى الوحي للإنذار بيوم التلاقي والفصل والجزاء ، يوم يتفرد الله بالملك والقهر والاستعلاء :
( هو الذي يريكم آياته ، وينزل لكم من السماء رزقاً ، وما يتذكر إلا من ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون . رفيع الدرجات ، ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق . يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء . لمن الملك اليوم ? لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت . لا ظلم اليوم . إن الله سريع الحساب ) . .
وهو الذي يريكم آياته . . وآيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود . في المجالي الكبيرة من شمس وكواكب ، وليل ونهار ، ومطر وبرق ورعد . . وفي الدقائق الصغيرة من الذرة والخلية والورقة والزهرة . . وفي كل منها آية خارقة ، تتبدى عظمتها حين يحاول الإنسان أن يقلدها - بله أن ينشئها - وهيهات هيهات التقليد الكامل الدقيق ، لأصغر وأبسط ما أبدعته يد الله في هذا الوجود .
وينزل عليكم من السماء رزقاً . . عرف الناس منه المطر ، أصل الحياة في هذه الأرض ، وسبب الطعام والشراب . وغير المطر كثير يكشفه الناس يوماً بعد يوم . ومنه هذه الأشعة المحيية التي لولاها ما كانت حياة على هذا الكوكب الأرضي . ولعل من هذا الرزق تلك الرسالات المنزلة ، التي قادت خطى البشرية منذ طفولتها ونقلت أقدامها في الطريق المستقيم ، وهدتها إلى مناهج الحياة الموصولة بالله ، وناموسه القويم .
( وما يتذكر إلا من ينيب ) . . فالذي ينيب إلى ربه يتذكر نعمه ويتذكر فضله ويتذكر آياته التي ينساها غلاظ القلوب .
وعلى ذكر الإنابة وما تثيره في القلب من تذكر وتدبر يوجه الله المؤمنين ليدعوا الله وحده ويخلصوا له الدين ، غير عابئين بكره الكافرين :
وقوله : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي : يظهر قدرته لخلقه {[25451]} بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ، { وَيُنزلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا } ، وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس ، من اختلاف ألوانه وطعومه ، وروائحه وأشكاله وألوانه ، وهو ماء واحد ، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء ، { وَمَا يَتَذَكَّرُ } أي : يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها { إِلا مَنْ يُنِيبُ } أي : من هو بصير منيب إلى الله ، عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته وَيُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السّمَاءِ رِزْقا يقول ينزّل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض ، وغذاء أنعامكم عليكم وَما يَتَذَكّرُ إلاّ مَنْ يُنِيبُ يقول : وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته ، فيعتبر بها ويتعظ ، ويعلم حقيقة ما تدلّ عليه ، إلا من ينيب ، يقول : إلا من يرجع إلى توحيده ، ويقبل على طاعته ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إلاّ مَنْ يُنِيبُ قال : من يقبل إلى طاعة الله .
هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك ، وآيات الله : تعم آيات قدرته وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله . وتنزيل الرزق : هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء والحكم ، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس : «ويُنْزِل » بالتخفيف . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة : «وينَزِّل » بفتح النون وشد الزاي .
وقوله تعالى : { وما يتذكر إلا من ينيب } معناه : وما يتذكر تذكراً يعتد به وينفع صاحبه ، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر ، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن .