{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } التي أمرهم باستماعها والاهتداء بها ، { لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } أي لم يقابلوها بالإعراض عنها والصمم عن سماعها وصرف النظر والقلوب عنها كما يفعله من لم يؤمن بها ولم يصدق ، وإنما حالهم فيها وعند سماعها كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } يقابلونها بالقبول والافتقار إليها والانقياد والتسليم لها ، وتجد عندهم آذانا سامعة وقلوبا واعية فيزداد بها إيمانهم ويتم بها إيقانهم وتحدث لهم نشاطا ويفرحون بها سرورا واغتباطا .
ثم بين - سبحانه - سرعة تأثرهم وتذكرهم ، وقوة عاطفتهم نحو دينهم فقال : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } .
والمراد بآيات ربهم ، القرآن الكريم وما اشتمل عليه من عظات وهدايات . . .
أى : أن من صفات هؤلاء المتقين أنهم ، إذا ذكرهم مذكر بآيات الله - تعالى - المشتملة على المواعظ والثواب والعقاب ، أكبوا عليها ، وأقبلوا على المذكِّر بها بآذان واعية ، وبعيون مبصرة ، وليس كأولئك الكفار أو المنافقين الذين ينكبون على عقائدهم الباطلة انكباب الصم العمى الذين لا يعقلون ، وينكرون ما جاءهم به رسول ربهم بدون فهم أو وعى أو تدبر .
فالآية الكريمة مدح للمؤمنين على حسن تذكرهم وتأثرهم ووعيهم ، وتعريض بالكافرين والمنافقين الذين يسقطون على باطلهم سقوط الأنعام على ما يقدم لها من طعام وغيره .
قال صاحب الكشاف : قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ . . } ليس بنفى للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفى للصمم والعمى ، كما تقول : لا يلقانى زيد مُسَلِّما هو نفى للسلام لا للقاء .
والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها ، وأقبلوا على المذكر بها ، وهم فى إكبابهم عليها ، سامعون بآذان واعية . مبصرون بعيون واعية ، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها . . . وهم كالصم العميان حيث لا يعونها كالمنافقين وأشباههم .
ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا ، قريبو الاعتبار إذا وعظوا ، مفتوحو القلوب لآيات الله ، يتلقونها بالفهم والاعتبار :
( والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ) .
وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان ؛ لا يسمعون ولا يبصرون ، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور . وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى . فأما عباد الرحمن ، فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق ، وما في آيات الله من صدق ، فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا ، لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه ! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ إِذَا ذُكّرُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } .
يقول تعالى ذكره : والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج الله ، لم يكونوا صُما لا يسمعون ، وعميا لا يبصرونها . ولكنهم يقاظُ القلوب ، فهماء العقول ، يفهمون عن الله ما يذكّرهم به ، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه ، فيوعون مواعظة آذانا سمعته ، وقلوبا وعته . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا فلا يسمعون ، ولا يبصرون ، ولا يفقهون حقا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا قال : لا يفقهون ، ولا يسمعون ، ولا يبصرون .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن ابن عون ، قال : قلت للشعبيّ : رأيت قوما قد سجدوا ، ولم أعلم ما سجدوا منه ، أسجد ؟ قال : وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآيات رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا قال : هذا مثل ضربه الله لهم ، لم يَدَعوها إلى غيرها ، وقرأ قول الله : إنّمَا المُؤْمِنُونَ الّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهمْ . . . الاَية .
فإن قال قائل : وما معنى قوله يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات الله ، فُيْنَفى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار ؟ قيل : نعم ، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصمّ وأعمى ، وخَرّه عليها كذلك ، إقامته على الكفر ، وذلك نظير قول العرب : سَبَبْتُ فلانا ، فقام يبكي ، بمعنى فظلّ يبكي ، ولا قيام هنالك ، ولعله أن يكون بكى قاعدا وكما يقال : نهيت فلانا عن كذا ، فقعديشتمني ومعنى ذلك : فجعل يشتمني ، وظلّ يشتمني ، ولا قعود هنالك ، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب ، حتى قد فهموا معناه . وذكر الفرّاء أنه سمع العرب تقول : فعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني ، أقبل يشتمني قال : وأنشد بعض بني عامر :
لا يُقْنعُ الجارِيَةَ الخِضَابُ *** وَلا الوِشاحان وَلا الجِلْبابُ
مِن دونِ أن تَلْتَقِيَ الأرْكابُ *** وَيَقْعُدَ الأَيْرُ لَهُ لُعابُ
بمعنى : يصير ، فكذلك قوله : لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا إنما معناه : لم يَصَمّوا عنها ، ولا عموا عنها ، ولم يصيروا على باب ربهم صُمّا وعمْيانا ، كما قال الراجز :
وقوله تعالى : { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم } ذكروا بالقرآن آخرتهم ومعادهم وقوله : { لم يخروا عليها صماً وعمياناً } يحتمل تأويلين : أحدهما أن يكون المعنى لم يكن خرورهم بهذه الصفة بل يكون سجداً وبكياً ، وهذا كما تقول لم يخرج زيد للحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً مقدماً . وكأن الذي يخر أصم وأعمى هو المنافق ، أو الشاك ، والتأويل الثاني ذهب إليه الطبري وهو أن يخروا صماً وعمياناً هي صفة للكافر وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك . وقرن ذلك بقوله قعد فلان يشتمني وقام فلان يبكي وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وكان المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض وضل كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام ولا ترتيب وإن كان قد شبه به الذي يخر ساجداً ، ولكن أصله أنه على غير ترتيب .
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية ، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمّاً وعمياناً كحال من لا يحبّ أن يرى شيئاً فيجعل وجهه على الأرض ، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض ، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول .
ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال ، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به .
ويجوز أن يكون الخرور واقعاً منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوساً في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار ، أو ستر الوجه كقول أعرابي يهجو قوماً من طيء ، أنشدهُ المبرد :
إذا ما قيل أيُّهم لأيّ *** تشابهتْ المناكِبُ والرؤوس
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح ( 7 ) { واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً } وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى : { يخِرُّون للأذقان سُجّداً } في سورة الإسراء ( 107 ) ، وقوله : { فخَرّ عليهم السقف من فوقهم } [ النحل : 26 ] وقوله : { وخرّ موسى صَعِقاً } في الأعراف ( 143 ) .
وصمّاً وعُمْيَانَاً } حالان من ضمير { يخروا } ، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه ، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به . فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده ، وهو استعمال كثير في الكلام . وهذا الوجه أوجه .
ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب « الكشاف » ، فالمعنى : لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعاراً للحرص على العمل بشراشر القلب ، كما يقال : أكَبّ على كذا ، أي صرف جهده فيه ، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهراً منهم بالحرص على ذلك . وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرَّض بهم منافقين ، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يُعرِضون عن تلقي الدعوة علَناً ، قال تعالى : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلّكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] . وقال : { وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تَدْعُونا إليه وفي آذانِنا وقر ومِن بينِنا وبينِك حجاب } [ فصلت : 5 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين إذا ذكروا بآيات ربهم} يعني: والذين إذا وعظوا بآيات القرآن {لم يخروا عليها صما وعميانا} يقول: لم يقفوا عليها صما لم يسمعوها، ولا عميانا لم يبصروها، كفعل مشركي مكة، ولكنهم سمعوا وأبصروا وانتفعوا به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين إذا ذكّرهم مذكر بحجج الله، لم يكونوا صُما لا يسمعون، وعميا لا يبصرونها. ولكنهم يقاظُ القلوب، فهماء العقول، يفهمون عن الله ما يذكّرهم به، ويفهمون عنه ما ينبههم عليه، فيوعون مواعظة آذانا سمعته، وقلوبا وعته... قال ابن زيد، في قوله "وَالّذِينَ إذَا ذُكّرُوا بآياتِ رَبّهِمْ لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا "قال: هذا مثل ضربه الله لهم، لم يَدَعوها إلى غيرها...
فإن قال قائل: وما معنى قوله "يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا" أَو يَخرّ الكافرون صُمّا وعُمْيانا إذا ذُكروا بآيات الله، فُيْنَفى عن هؤلاء ما هو صفة للكفار؟ قيل: نعم، الكافر إذا تُليت عليه آيات الله خرّ عليها أصمّ وأعمى، وخَرّه عليها كذلك، إقامته على الكفر، وذلك نظير قول العرب:... نهيت فلانا عن كذا، فقعد يشتمني، ومعنى ذلك: فجعل يشتمني، وظلّ يشتمني، ولا قعود هنالك، ولكن ذلك قد جرى على ألسن العرب، حتى قد فهموا معناه... فكذلك قوله: "لَمْ يَخِرّوا عَلَيْها صُمّا وعُمْيانا" إنما معناه: لم يَصَمّوا عنها، ولا عموا عنها، ولم يصيروا على باب ربهم صُمّا وعمْيانا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي لم يتغافلوا عنها، وقال بعضهم: إنهم إذا وعظوا بالقرآن {لم يخروا عليها صما وعميانا} عند تلاوة القرآن، فلا يسمعون، ولا يبصرون، ولكن يخرون عليها سمعا وبصرا، وهو واحد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ثم قال في صفتهم: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} بل قابلوها بالتفكير والتأمل، واستعمال النظر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا} ليس بنفي للخرور، وإنما هو إثبات له، ونفي للصمم والعمى، كما تقول: لا يلقاني زيد مسلماً، هو نفي للسلام لا للقاء. والمعنى: أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصاً على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها، سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها، مظهرين الحرص الشديد على استماعها، وهم كالصم العميان حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَأوا الْقُرْآنَ قَرَأوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ،.. فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ...
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[و] هذه من صفات المؤمنين {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يُقْصر عما كان عليه، بل يبقى مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 -125].
فقوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} أي: بخلاف الكافر الذي ذكر بآيات ربه، فاستمر على حاله، كأن لم يسمعها أصم أعمى. قال مجاهد: قوله: {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} لم يسمعوا: ولم يبصروا، ولم يفقهوا شيئًا. وقال الحسن البصري: كم من رجل يقرأها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} يقول: لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه، فهم- والله -قوم عقلوا عن الله وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن حُمْران، حدثنا ابن عَوْن قال: سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا، أيسجد معهم؟ قال: فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} يعني: أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر آية السجدة فلا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة من أمره، ويقين واضح بَيِّن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر وصفهم الذي فاقوا به، أشار إلى وصف الجهلة الذين سفلوا به، فقال: {والذين إذا ذكروا} أي ذكرهم غيرهم كائناً من كان، لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله {بآيات ربهم} أي الذي وفقهم لتذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة {لم يخروا} أي لم يفعلوا فعل الساقطين المستعلين {عليها} الساترين لها؛ ثم زاد في بيان إعراضهم وصدهم عنها فقال منبهاً على أن المنفي القيد لا المقيد، وهو الخرور، بل هو موجود غير منفي بصفة السمع والبصر: {صماً وعمياناً} أي كما يفعل المنافقون والكفار في الإقبال عليها سماعاً واعتباراً، والإعراض عنها تغطية لما عرفوا من حقيتها، وستراً لما رأوا من نورها، فعل من لا يسمع ولا يبصر كما تقدم عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق، وذلك وصف لعباد الرحمن بفعل ضد هذا، أي أنهم يسقطون عند سماعها ويبكون عليها، سقوط سامع منتفع بسمعه، بصير منتفع ببصره وبصيرته، سجداً يبكون كما تقدم في أول أوصافهم وإن لم يبلغوا أعلى درجات البصيرة -بما أشارت إليه المبالغة بزيادة النون جمع العمى.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أريد تمييز المؤمنين بمخالفة حالة هي من حالات المشركين وتلك هي حالة سماعهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وما تشتمل عليه من آيات القرآن وطلب النظر في دلائل الوحدانية، فلذلك جيء بالصلة منفية لتحصيل الثناء عليهم مع التعريض بتفظيع حال المشركين فإن المشركين إذا ذُكّروا بآيات الله خَرُّوا صُمّاً وعمياناً كحال من لا يحبّ أن يرى شيئاً فيجعل وجهه على الأرض، فاستعير الخرور لشدة الكراهية والتباعد بحيث إن حالهم عند سماع القرآن كحال الذي يخرّ إلى الأرض لئلا يرى ما يكره بحيث لم يبق له شيء من التقوم والنهوض، فتلك حالة هي غاية في نفي إمكان القبول. ومنه استعارة القعُود للتخلف عن القتال، وفي عكس ذلك يستعار الإقبال والتلقي والقيام للاهتمام بالأمر والعناية به.
ويجوز أن يكون الخرور واقعاً منهم أو من بعضهم حقيقة لأنهم يكونون جلوساً في مجتمعاتهم ونواديهم فإذا دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام طأطأوا رؤوسهم وقربوها من الأرض لأن ذلك للقاعد يقوم مقام الفرار، أو ستر الوجه... وقريب من هذا المعنى قوله تعالى حكايةً في سورة نوح (7) {واستَغْشَوْا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكباراً} وتقدم الخرور الحقيقي في قوله تعالى: {يخِرُّون للأذقان سُجّداً} في سورة الإسراء (107)، وقوله: {فخَرّ عليهم السقف من فوقهم} [النحل: 26] وقوله: {وخرّ موسى صَعِقاً} في الأعراف (143).
وصمّاً وعُمْيَانَاً} حالان من ضمير {يخروا}، مراد بهما التشبيه بحذف حرف التشبيه، أي يخِرّون كالصمّ والعُميان في عدم الانتفاع بالمسموع من الآيات والمبصرَ منها مما يُذكَّرون به. فالنفي على هذا منصبّ إلى الفعل وإلى قيده، وهو استعمال كثير في الكلام. وهذا الوجه أوجه. ويجوز أن يكون توجّه النفي إلى القيد كما هو استعمال غالبٌ وهو مختار صاحب « الكشاف»، فالمعنى: لم يخرّوا عليها في حالة كالصمم والعمى ولكنهم يخرّون عليها سَامعين مبصرين فيكون الخرور مستعاراً للحرص على العمل بشراشر القلب، كما يقال: أكَبّ على كذا، أي صرف جهده فيه، فيكون التعريض بالمشركين في أنهم يصمون ويعمون عن الآيات ومع ذلك يخرّون على تلقّيها تظاهراً منهم بالحرص على ذلك. وهذا الوجه ضعيف لأنه إنما يليق لو كان المعرَّض بهم منافقين، وكيف والسورة مكية فأما المشركون فكانوا يُعرِضون عن تلقي الدعوة علَناً، قال تعالى: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلّكم تغلبون} [فصلت: 26]. وقال: {وقالوا قلوبنا في أكِنّة مما تَدْعُونا إليه وفي آذانِنا وقر ومِن بينِنا وبينِك حجاب} [فصلت: 5].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وهنا إشارة بيانية نذكرها، وهي أن الله تعالى يقول: لا يخرون صما وعميانا بنفي الخرور، وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات التي تتلى أو توجه الأنظار في المخلوقات من شأنها أن تجعل من يتأملها ويسمعها أن تجعله يخر خرورا لوضوح إعجازها ودلالتها، لكن عباد الرحمن يخرون سجدا وبكيا، والكافرون يخرون صما وعميانا.