{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا } أي : قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات ، { وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي : تقر بهم أعيننا .
وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا : { هَبْ لَنَا } بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم .
{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } أي : أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية ، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم ، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون .
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به ، وهذه الدرجة -درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين ، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل .
ثم ذكر - سبحانه - فى نهاية الحديث عنهم أنهم لا يكتفون بهذه المناقب الحميدة التى وهبهم الله إياها ، وإنما هم يتضرعون إليه - سبحانه - أن يجعل منهم الذرية الصالحة ، وأن يرزقهم الزوجات الصالحات . فقال - تعالى - : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
أى : يقولون فى دعائهم وتضرعهم يا { رَبَّنَا هَبْ لَنَا } بفضلك وجودك { مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أى : ما يجعل عيوننا تسر بهم ، ونفوسنا تنشرح برؤيتهم ، وقلوبنا تسكن وتطمئن وجودهم ، لأنهم أتقياء صالحون مهتدون .
{ واجعلنا } يا ربنا { لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى : اجعلنا قدوة وأسوة للمتقين .
يقتدون بنا فى أقوالنا الطيبة ، وأعمالنا الصالحة ، فأنت تعلم - يا مولانا - أننا نعمل على قدر ما نستطيع فى سبيل إرضائك وفى السير على هدى رسولك صلى الله عليه وسلم . هذه هى صفات عباد الرحمن ذكرها القرآن فى هذه الآيات الكريمة ، وهى تدل على قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم . . . فماذا أعد الله - تعالى - لهم ؟
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها ، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم ، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم ؛ فتقر بهم عيونهم ، وتطمئن بهم قلوبهم ، ويتضاعف بهم عدد ( عباد الرحمن )ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه :
( والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، واجعلنا للمتقين إماما ) . .
وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق : شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله . وفي أولهم الذرية والأزواج ، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال . والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير ، يأتم به الراغبون في الله . وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً } .
يقول تعالى ذكره : والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا : رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون : من يعمل لك بالطاعة ، فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والاَخرة .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حزم ، قال : سمعت كثيرا سأل الحسن ، قال : يا أبا سعيد ، قول الله هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ في الدنيا والاَخرة ، قال : لا بل في الدنيا ، قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قرأ حضرمي : رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله : هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ، ولا يجرون الجرائر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك يحسنون عبادتك ، ولا يجرّون علينا الجرائر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام .
حدثنا محمد بن عون ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود ، فقال : لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية ، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فَرَق به بين الحقّ والباطل ، وفَرّق بين الوالد وولده ، حتى إنْ كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام ، فيعلم أنه إن مات دخل النار ، فلا تقرّ عينه ، وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها للتي قال الله : وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ . . . الاَية .
حدثني ابن عون ، قال : ثني عليّ بن الحسن العسقلانيّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، عن المقداد ، نحوه .
وقيل : هب لنا قرّة أعين ، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع ، وقوله : قُرّة أعْيُنٍ واحدة ، لأن قوله : قرّة أعين مصدر من قول القائل : قرّت عينك قرّة ، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه .
وقوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عون بن سلام ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلْنا للمْتّقِينَ إماما يقول : أئمة يُقتدى بنا .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا . قال ابن زيد : كما قال لإبراهيم : إني جاعِلُكَ للنّاس إماما .
وقال آخرون : بل معناه : واجعلنا للمتقين إماما : نأتمّ بهم ، ويأتمّ بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِين إماما قال : أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ونكون أئمة لمن بعدنا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد وَاجْعَلْنا للمُتّقِينَ إماما قال : اجعلنا مؤتمين بهم ، مقتدين بهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات ، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ، ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما ، وقال وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما ولم يقل أئمة . وقد قالوا : واجعلنا وهم جماعة ، لأن الإمام مصدر من قول القائل : أمّ فلان فلانا إماما ، كما يقال : قام فلان قياما ، وصام يوم كذا صياما . ومن جمع الإمام أئمة ، جعل الإمام اسما ، كما يقال : أصحاب محمد إمام ، وأئمة للناس . فمن وحّد قال : يأتمّ بهم الناس . وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويّي أهل الكوفة . وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية : الإمام في قوله : للْمُتّقِينَ إماما جماعة ، كما تقول : كلهم عُدُول . قال : ويكون على الحكاية ، كما يقول القائل إذا قيل له : من أميركم : هؤلاء أميرنا . واستشهد لذلك بقول الشاعر :
يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي *** إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ
ثم مدح المؤمنين حال الدعاء إليه في أن يقر العيون بالأهل والذرية ، و «قرة العين » يحتمل أن تكون من القرار ، ويحتمل أن تكون من القر ، وهو الأشهر لأن دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن ، فمن هذا يقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو{[8890]} ، و «قرة العين » في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين لله تعالى قاله ابن عباس والحسن وحضرمي ، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فكانت قرت عيونهم في إيمانهم أحبابهم ، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والحسن «ذرياتنا » ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى «ذريتنا » بالإفراد .
وقوله تعالى : { للمتقين إماماً } قيل هو جمع ، آم مثل قائم وقيام وقيل هو مفرد اسم جنس أي اجعلنا يأتم بنا المتقون ، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقياً قدوة وهذا هو قصد الداعي ، قال إبراهيم النخعي لم يطلبوا الرياسة بل أن يكونوا قدوة في الدين وهذا حسن أن يطلب ويسعى له .
هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يُعْنَون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدْعُون الله أن يرزقهم أزواجاً وذرّيّات تقَرُّ بهم أعينُهم ، فالأزواج يُطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه ؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين ، والذّريات إذا نَشَأوا نشأوا مؤمنين ، وقد جُمع ذلك لهم في صفة { قرة أعين } . فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقَرّ عيون المؤمنين إلاّ بأزواج وأبناء مؤمنين . وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله : { ولا تُمسِكوا بعِصَم الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] ، وقال : { والذي قال لوالدَيه أُف لكما أَتَعِدَانِنِيَ أن أُخرَج } [ الأحقاف : 17 ] الآية . فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقُرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم ، كما في قول عبد الله ابن رواحة وهو خارج إلى غزوة مؤتة ، فدعا له المسلمون ولمن معه أن يَردّهم الله سالمين فقال :
لكنني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربةً ذات فَرْغ تَقِذف الزبَدا
أو طعنةً بيديْ حرَّانَ مجهزة *** بحَرْبة تُنفذ الأحشاءَ والكَبِدا
حتى يقولوا إذا مَروا على جَدَثي *** أرشدَك الله من غَاز وقد رَشَدا
فإن في قوله : حتى يقولوا ، حظاً لنفسه من حسن الذكر وإن كان فيه دعاء له بالرشد وهو حظّ ديني أيضاً ، وقوله : وقد رَشَدَ ، حُسْن ذِكرٍ محض . وفي كتاب « الجامع » من « جَامع العتبية » من أحاديث ابن وهب قال مالك : رأيت رجلاً يَسأل ربيعة يقول : إني لأُحِبّ أن أُرى رائحاً إلى المسجد ، فكأنه كره من قوله ولم يعجبه أن يحبّ أحدٌ أن يُرى في شيء من أعمال الخير . وقال ابن رشد في « شرحه » : وهذا خلاف قول مالك في رسم العُقول من سماع أشهب من كتاب الصلاة : إنه لا بأس بذلك إذا كان أولُه لله ( أي القصد الأول من العمل لله ) . وقال ابن رشد في موضع آخر من « شرحه » قال الله تعالى : { وألقَيْتُ عليك محبةً منّي } [ طه : 39 ] ، وقال : { واجعل لي لسانَ صِدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] . وقال الشاطبي في « الموافقات » : « عد مالك ذلك من قبيل الوسوسة ، أي أن الشيطان باقي للإنسان إذا سَرّه مرأى الناس له على الخير فيقول لك : إنك لَمُراءٍ . وليس كذلك وإنما هو أمر يقع في قلبه لا يُملَك » اه .
وفي « المعيار » عن كتاب « سراج المريدين » لأبي بكر بن العربي قال : سألت شيخنا أبا منصور الشيرازي الصوفي عن قوله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا } [ البقرة : 160 ] ما بَيّنوا ؟ قال : أظهروا أفعالهم للناس بالصلاح والطاعات .
قال الشاطبي : وهذا الموضع محل اختلاف إذا كان القصد المذكور تابعاً لقصد العبادة . وقد التزم الغزالي فيها وفي أشباهها أنها خارجة عن الإخلاص لكن بشرط أن يصير العمل أخفّ عليه بسبب هذه الأغراض .
وأما ابن العربي فذهب إلى خلاف ذلك وكأنَّ مجالَ النظر يلتفت إلى انفكاك القصدين ، على أن القول بصحة الانفكاك فيما يصح فيه الانفكاك أَوْجَهُ لما جاء من الأدلة على ذلك ، إلى آخره .
و { مِن } في قوله : { من أزواجنا } للابتداء ، أي اجعل لنا قُرّة أعْيُن تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا .
وقرأ الجمهور : { وذرياتنا } جمع ذرية ، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك ، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد . وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و { ذريتنا } بدون ألف بعد التحتية ، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير { الذين يقولون } ، أي ذرية كل واحد .
والأعين : هي أعين الداعين ، أي قرة أعيُن لنا . وإذ قد كان الدعاء صادراً منهم جميعاً اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم .
وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قُدوةً يَقتدي بهم المتقّون . وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغَ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمالَ فيه . وهذا يقتضي أيضاً أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم .
والإمام أصله : المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله ، قال النابغة :
أبوه قبله وأبو أبيه *** بنَوْا مجدَ الحياة على إمام
وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب ، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة . وقد تقدم في قوله تعالى : { قال إني جاعلُك للناس إماماً } في سورة البقرة ( 124 ) . ووقع الإخبار ب{ إماماً } وهو مفرد عن ضمير جماعة المتكلمين لأن المقصود أن يكون كل واحد منهم إماماً يُقتَدى به ، فالكلام على التوزيع ، أو أريد من إمام معناه الحقيقي وجرى الكلام على التشبيه البليغ . وقيل إمام جمع ، مثل هِجان وصِيام ومفردهُ : إمٌّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين} يقول: اجعلهم صالحين، فتقر أعيننا بذلك، {واجعلنا للمتقين إماما} يقول: واجعلنا أئمة يقتدي بنا في الخير.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا:"رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا" ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك... وقوله: "وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما "اختلف أهل التأويل في تأويله؛
فقال بعضهم: معناه: اجعلنا أئمة يَقتَدِي بنا من بعدنا... وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للمتقين إماما: نأتمّ بهم، ويأتمّ بنا من بعدنا... عن مجاهد، في قوله: "وَاجْعَلْنا للْمُتّقِين إماما" قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ونكون أئمة لمن بعدنا...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة، ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما، وقال "وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما" ولم يقل أئمة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} قد نعتهم سبحانه وتعالى في معاملتهم: أن كيف عاملوا ربهم بالليل والنهار نعتهم أيضا في معاملتهم عباده: أن كيف عاملوا عباده. ثم نعتهم في معاملتهم أهليهم ودعائهم لهم، فقال: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} فهو، والله أعلم لما أمرهم أن يتوبوا ويقوا أنفسهم وأهليهم النار بقوله: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} الآية [التحريم: 6] فعند ذلك دعوا ربهم، وسألوه أن يهب لهم من أزواجهم وذرياتهم ما تقر به أعينهم في الدنيا والآخرة.
وقال بعضهم: اجعلهم صالحين مطيعين فإن ذلك يقر أعيننا. قال الحسن: والله ما شيء أحب إلى العبد المسلم من أن يرى ولده أو حميمه يطيع الله، وقال: نراهم يعملون بطاعة الله، فتقر بذلك أعيننا، والله أعلم.
{واجعلنا للمتقين إماما} قال بعضهم: أي اجعلنا أئمة هدى، يقتدى بنا. وقال بعضهم: واجعلنا بحال يقتدي بنا المتقون. وأصله، والله أعلم: كأنهم سألوا ربهم أن يجعلهم بحال من اقتدى بهم صار تقيا، لا من اقتدى صار ضالا فاسقا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قرة العين مَن به حياة الروح، وإنما يكون كذلك إذا كان بحقِّ الله قائماً. ويقال قرة العين من كان لطاعة ربه معانقاً، ولمخالفة أمره مفارقاً.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} الإمام مَنْ يُقْتَدى به ولا يَبْتَدِع. ويقال إن الله مدح أقواماً ذكروا رتبة الإمامة فسألوها بنوع تضرع، ولم يدَّعوا فيها اختيارهم؛ فالإمامةُ بالدعاء لا بالدعوى، فقالوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر هذه الخصلة المثمرة لما يلي الخصلة الأولى، ختم بما ينتج الصفة الأولى. فقال مؤذناً بأن إمامة الدين ينبغي أن تطلب ويرغب فيها: {والذين يقولون} علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة: {ربنا هب لنا من أزواجنا} اللاتي قرنتها بنا كما فعلت لنبيك صلى الله عليه وسلم، فمدحت زوجته في كلامك القديم، وجعلت مدحها يتلى على تعاقب الأزمان والسنين {وذرياتنا قرة} ولما كان المتقون -الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها- قليلاً في جنب العاصين، أتى بجمع القلة ونكر فقال: {أعين} أي من الأعمال أو من العمال يأتمون بنا، لأن الأقربين أولى بالمعروف، ولا شيء أسر للمؤمن ولا أقر لعينه من أن يرى حبيبه يطيع الله، فما طلبوا إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم، ف "من "إما تكون مثلها في: رأيت منك أسداً، وإما أن تكون على بابها، وتكون القرة هي الأعمال، أي هب لنا منهم أعمالاً صالحة فجعلوا أعمال من يعز عليهم هبة لهم، وأصل القرة البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد، فجعل ذلك كناية عن السرور {واجعلنا} أي إيانا وإياهم {للمتقين} أي عامة من الأقارب والأجانب. ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في المتابعة واحدة، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس، فقالوا: {إماماً*} أي فنكون علماء مخبتين متواضعين كما هو شأن إمامة التقوى في إفادة التواضع والسكينة، لنحوز الأجر العظيم، إذ الإنسان له أجره وأجر من اهتدى به فعمل بعمله "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" وعكسه.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} [سورة الطور، الآية21]
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما؛ وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم؛ فتقر بهم عيونهم، وتطمئن بهم قلوبهم، ويتضاعف بهم عدد (عباد الرحمن) ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه: (والذين يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما).. وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال. والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير، يأتم به الراغبون في الله. وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يُعْنَون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدْعُون الله أن يرزقهم أزواجاً وذرّيّات تقَرُّ بهم أعينُهم، فالأزواج يُطعنهم باتباع الإسلام وشرائعه؛ فقد كان بعض أزواج المسلمين مخالفات أزواجهم في الدين، والذّريات إذا نَشَأوا نشأوا مؤمنين، وقد جُمع ذلك لهم في صفة {قرة أعين}. فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة إذ لا تقَرّ عيون المؤمنين إلاّ بأزواج وأبناء مؤمنين. وقد نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في العصمة بقوله: {ولا تُمسِكوا بعِصَم الكوافر} [الممتحنة: 10]، وقال: {والذي قال لوالدَيه أُف لكما أَتَعِدَانِنِيَ أن أُخرَج} [الأحقاف: 17] الآية. فمن أجل ذلك جعل دعاؤهم هذا من أسباب جزائهم بالجنة وإن كان فيه حظ لنفوسهم بقُرّة أعينهم إذ لا يناكد حظ النفس حظ الدين في أعمالهم...
و {مِن} في قوله: {من أزواجنا} للابتداء، أي اجعل لنا قُرّة أعْيُن تنشأ من أزواجنا وذرّياتنا. وقرأ الجمهور: {وذرياتنا} جمع ذرية، والجمع مراعى فيه التوزيع على الطوائف من الذين يدعون بذلك، وإلا فقد يكون لأحد الداعين ولد واحد. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف و {ذريتنا} بدون ألف بعد التحتية، ويستفاد معنى الجمع من الإضافة إلى ضمير {الذين يقولون}، أي ذرية كل واحد. والأعين: هي أعين الداعين، أي قرة أعيُن لنا. وإذ قد كان الدعاء صادراً منهم جميعاً اقتضى ذلك أنهم يريدون قرة أعين جميعهم. وكما سألوا التوفيق والخير لأزواجهم وذرّياتهم سألوا لأنفسهم بعد أن وفقهم الله إلى الإيمان أن يجعلهم قُدوةً يَقتدي بهم المتقّون. وهذا يقتضي أنهم يسألون لأنفسهم بلوغَ الدرجات العظيمة من التقوى فإن القدوة يجب أن يكون بالغاً أقصى غاية العمل الذي يرغب المهتمّون به الكمالَ فيه. وهذا يقتضي أيضاً أنهم يسألون أن يكونوا دعاة للدخول في الإسلام وأن يهتدي الناس إليه بواسطتهم.
والإمام أصله: المثال والقالب الذي يصنع على شكله مصنوع من مثله...
وأُطلق الإمام على القدوة تشبيهاً بالمثال والقالَب، وغلب ذلك فصار الإمام بمعنى القدوة. وقد تقدم في قوله تعالى: {قال إني جاعلُك للناس إماماً} في سورة البقرة (124)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بحيث يعيش الإنسان الشعور بالسرور عندما ينظر إليهم وهم يؤمنون بالله ويتحركون في خط طاعته ورضاه على أساس الالتزام بالحق في كلّ أقوالهم وأفعالهم، لأن الإنسان المؤمن لا يفكر في القضايا بطريقةٍ ذاتيةٍ، من خلال العلاقات الخاصة في الحياة بزوجه وولده، بل يفكر بطريقةٍ إيمانية مسؤولة. وهذا هو ما يخصص التمنيات بالجانب الإسلامي من شخصية الأزواج والأولاد بالإضافة الى ما يحبه الإنسان من جوانب أخرى.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} في ما يحبه المؤمن لنفسه من التقدم في مجالات الخير، والدعوة إلى الله والعمل في سبيله، والالتزام بالخط المستقيم في العقيدة والشريعة والحياة، بحيث يبلغ الدرجة العليا في ذلك، حيث الإِمامة والقيادة. وذلك هو طموح المؤمنين في الحياة، في عملية التسامي في آفاق التقوى في ما يجاهدون به أنفسهم، ويطوِّرون به معارفهم، فلا تتوقف طموحاتهم على شؤونهم الذاتية في الحاجات الدنيوية الطبيعية، بل تنطلق إلى مواقع رضوان الله، انطلاقاً مما دعا الله إليه عباده المؤمنين من استباق الخيرات، والمسارعة إلى المغفرة والجنة والتنافس في درجات الحصول على رضاه.