ثم ختم إبراهيم - عليه السلام - تلك الدعوات الطيبات التى تضرع بها إلى ربه ، بما حكاه الله عنه فى قوله { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ . رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب }
أى : يا رب اجعلنى من عبادك الذين يؤدون الصلاة فى أوقاتها بإخلاص وخشوع ، واجعل من ذريتى من يقتدى بى فى ذلك ، كما أسألك يا رب أن تتقبل دعائى ولا تخيبنى فى مطلوب أسألك إياه .
كما أسألك - يا إلهى - أن تغفر لى ذنوبى ، وأن تغفر لوالدى وللمؤمنين ، يوم يقوم الناس للحساب ، فتجازى كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
وإنما طلب إبراهيم لوالديه المغفرة ، قبل أن يتبين له أن والده عدو لله . فلما تبين له ذلك تبرأ منه . قال - تعالى - { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } أما أمه فقال بعضهم : إنها كانت مؤمنة ، وقال آخرون : لعلها توفيت قبل نبوته .
وبعد أن حكى - سبحانه - تلك الدعوات الطيبات التى تضرع بها إبراهيم إلى ربه ، والتى تضمنت أمهات الفضائل ، كسلامة القلب ، وطهارة النفس ، ورقة العاطفة ، وحسن المراقبة ، وحب الخير لغيره .
ويعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديما للشكر . الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق ، أو يصرفه عنها صارف ، ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه :
( رب اجعلني مقيم الصلاة . ومن ذريتي . ربنا وتقبل دعاء ) . .
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش . وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه ، ويدعو الله ليوفقه إليه . وهم ينأون عنها ويعرضون ، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده !
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاَةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبّنَا وَتَقَبّلْ دُعَآءِ } .
يقول : ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة . وَمِنْ ذُرّيّتِي يقول : واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك . رَبّنا وتَقَبّلْ دُعاءِ يقول : ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك . وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إنّ الدّعاءَ هُوَ العبادَةُ » ثم قرأ : وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ .
وقوله : { رب اجعلني مقيم الصلاة } ، دعا إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابراً عليه متمسكاً به ، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة الأمر واستمراره .
وقرأ طلحة والأعمش «دعاء ربنا » بغير ياء . وقرأ أبو عمرو وابن كثير «دعائي » بياء ساكنة في الوصل ، وأثبتها بعضهم دون الوقف في الوصل . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف . وروى ورش عن نافع : إثبات الياء في الوصل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول: ربّ اجعلني مؤدّيا ما ألزمتني من فريضتك التي فرضتها عليّ من الصلاة. "وَمِنْ ذُرّيّتِي "يقول: واجعل أيضا من ذريتي مقيمي الصلاة لك. "رَبّنا وتَقَبّلْ دُعاءِ" يقول: ربنا وتقبل عملي الذي أعمله لك وعبادتي إياك. وهذا نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ الدّعاءَ هُوَ العبادَةُ» ثم قرأ: "وَقالَ رَبّكُمُ ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ إنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي} قد سبق من الله الأمر بإقامته الصلاة، وهو المقيم لها فدل الدعاء منه والسؤال على أن يجعله مقيم الصلاة أن عند الله لطفا سوى الأمر، لم يعطه إياه فسأله ذلك، هو التوفيق.
{ربنا وتقبل دعاء} قال بعضهم: تقبل دعائي في إقامة الصلاة لنفسه وذريته...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"رب اجعلني مقيم الصلاة" سؤال من ابراهيم (عليه السلام) لله تعالى أن يجعله ممن يقيم شرائط الصلاة ويدوم عليها بلطف يفعله به يختار ذلك عنده، وسأله أن يفعل مثل ذلك بذريته، وأن يجعل منهم جماعة يقيمون الصلاة، وهم الذين أعلمه الله أن يقوموا بها دون الكفار الذين لا يقيمون الصلاة.
"ربنا وتقبل دعاء" رغبة منه اليه تعالى أن يجيب دعاءه فيما سأله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{رب اجعلني مقيم الصلاة}، دعا إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابراً عليه متمسكاً به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة الأمر واستمراره...
{رب اجعلن مقيم الصلاة ومن ذريتي} يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله، وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من الله...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"رب اجعلني مقيم الصلاة" أي من الثابتين على الإسلام والتزام أحكامه...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{ربنا وتقبل دعاء} إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول: الاستجابة، وإن أراد بالدعاء العبادة فالقبول على حقيقته...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال: {رب} أي أيها الموجد لي المالك لأمري {اجعلني مقيم الصلاة} أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدباً: {ومن ذريتي}. ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفرد الضمير للدعاء بها متملقاً لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي {وتقبل دعاء} كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولاً جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{رَبّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة} مثابراً عليها معدّلاً لها، وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال: {وَمِن ذريتي} أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
قد خص الصلاة من بين فرائض الدين لأنها العنوان الذي يمتاز به المؤمن من غيره، ولما لها من المزية العظمى في تطهير القلوب بترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديما للشكر. الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق، أو يصرفه عنها صارف، ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه: (رب اجعلني مقيم الصلاة. ومن ذريتي. ربنا وتقبل دعاء).. وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش. وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه، ويدعو الله ليوفقه إليه. وهم ينأون عنها ويعرضون، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
النداء إلى الله سبحانه وتعالى بوصف أنه ربه كونه وأنشأنه، وربه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة، يفديه بروحه وبالإيمان، وإقامة الصلاة، كما غذاه في بدنه وعموم أحواله، وحاجاته البدنية، فيطلب غذاءه الروحي بعد غذائه الجسدي. ويقول عليه السلام مخاطبا ربه: {اجعلني مقيم الصلاة}، أي صبرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة، ومنها الخشوع والخضوع المطلق، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته... قال: {ومن ذريتي}، و {من} هنا للتبعيض، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لا ينقطع التوحيد، وإقامة شعائره، بل تتصل إلى يوم القيامة، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه، ويسيرون في طريق الحق، وهو الطريق المستقيم...
وقال: {تقبل دعاء} والتقبل شدة القبول، وتقبل العبادة من الله تعالى قبولها مع الرضوان، ومحبة القائم بها. وإن ذلك يتقاضى أن يكون ذلك من العابد بقلب سليم مخلص طاهر، لا يقصد بها غير وجه الله الكريم، لا يرائي به، ولا ينقض بعضها ببعض، بل يتجه بكل نفسه لربه لا يكون فيها موطن لغيره سبحانه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
سجل كتاب الله الدعاء الإبراهيمي الذي يعتبر نموذجا للدعاء الصالح بالنسبة لكل مؤمن، فقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم {رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}. وها هنا نجد إبراهيم عليه السلام يحصر دعاءه للمرة الثانية في إقامة الصلاة التي هي عماد الدين، كما حصره فيها في المرة الأولى إذ قال: {ربنا ليقيموا الصلاة}، ونجده يدعو لذريته ووالديه والمؤمنين، وهكذا ينبغي لكل داع أن لا يخص نفسه بالدعاء، بل أن يدعو لنفسه ووالديه وذريته وكل من له حق عليه، وأن يدعو لكافة المؤمنين...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصّلاةِ وَمِن ذُرِّيَتي} بما تمثله الصلاة من إخلاص عميق لله مصدره الإحساس الواعي بالعبودية له، والانفعال الإيماني، فكراً وشعوراً، بالنداء الإلهيّ الذي يدعوه للسير على الخط المستقيم الذي حدده الله في كتبه وعبر رسله، إنها اللهفة الحارّة الخاشعة الحميمة التي تنساب بكل خشوع المؤمن وخضوعه بين يدي الله، {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} لأن ذلك هو المظهر الحيّ لرضاك، وللإحساس الروحي، بأنك تقبل عبدك في ساحة رحمتك ولطفك...