بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ} (5)

{ النار ذَاتِ الوقود } يعني : يصيرون إلى النار ، ذات الوقود في الآخرة : وقال الكلبي : النار ارتفعت فوقهم أربعين ذراعاً ، فوقعت عليهم وأحرقتهم وقتلتهم ، وذلك قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود النار ذَاتِ الوقود } قال : حدثنا أبو جعفر ، قال : حدثنا علي بن أحمد قال : حدثنا محمد بن الفضل ، حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأخدود ، فقال : " كان ملكاً من الملوك ، كان له ساحر فكبر الساحر ، فقال للملك : إني قد كبرت ، فلو نظرت غلاماً في أهلك فطناً كيساً ، فعلمته على هذا فنظر إلى غلام من أعلم أهله كيسا فظنا ، فأمره أن يأتيه ويلزمه ، وكان بين منزل الغلام ومنزل الساحر راهب ، فقال الغلام : لو دخلت على هذا الراهب ، وسمعت من كلامه فدخل عليه فأعجبه قوله ، وكان أهله إذا بعثوه إلى الساحر ، دخل الغلام على الراهب ، واحتبس عنده . فإذا أتى الساحر ، ضربه وقال : ما حبسك ؟ فإذا رجع من عند الساحر إلى أهله ، دخل على الراهب فاحتبس عنده . فإذا أتى أهله ضربوه ، وقالوا ما حبسك ؟ فشكى ذلك إلى الراهب ، فقال له الراهب : إذا قالوا لك ما حبسك فقل : حبسني الساحر ، وإذا قال لك الساحر : ما حبسك فقل : حبسني أهلي ، فبينما هو ذات يوم يريد الساحر ، إذا هو بدابة هائلة ، يعني : كبيرة قد قطعت الطريق على الناس . فقال : اليوم يتبين لي أمر الراهب ، فأخذ حجراً ودنا من الدابة ، فقال : اللهم إن كان أمر الراهب حقاً ، فاقتل هذه الدابة ، ثم رماها فأصاب مقتلها ، فقتلها . فقال الناس : إن هذا الغلام قتل هذه الدابة ، واشتهر أمره .

فأتى الراهب ، فأخبره ، فقال : يا بني ، أنت خير مني ، فلعلك أن تبتلى ، لا تدلن عليَّ ، فبلغ أمر الغلام أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي من الأرض ، فعمي جليس الملك ، فذكر له الغلام فأتاه فقال : يا بني ، قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص ، فقال الغلام : ما أنا بساحر ، ولا أشفي أحداً ، ولا يشفي إلا ربي . فقال له الرجل : «هذا الملك ربك ، قال : لا ولكن ربي ورب الملك الله تعالى ، فإذا آمنت بالله تعالى به دعوت الله تعالى فشفاك .

فأسلم فدعا الله تعالى ، فبرئ فأتى الملك فقال له الملك : أليس يا فلان قد ذهب بصرك ؟ فقال : بلى ، ولكن رده علي ربي ، فقال : أنا ، قال : لا ، ولكن ربي وربك الله ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم . ربي وربك الله تعالى ، فلم يزل به حتى أخبره بأمر الغلام ، فأرسل إلى الغلام ، فجاءه فقال : يا بني قد بلغ من سحرك ، أنك تشفي من كذا وكذا ، فقال الغلام : ما أنا بساحر ، ولا أشفي أحداً ، وما يشفي إلا ربي فقال : أنا ؟ قال : لا ولكن ربي وربك الله ، فلم يزل به حتى دل على الراهب . فدعا الراهب فأتي به ، فأراد أن يرجع من دينه ، فأبى وأمر بمنشار ، فوضع في مفرق رأسه ، فشق به حتى سقط شقاه .

ثم دعا بجليسه ، وأراد أن يرجع عن دينه فأبى ، فأمر بمنشار ، فشق حتى سقط شقاه ، فأمر الغلام أن يفعل ذلك بمكانه ، فقال : احملوه في سفينة . فانطلقوا به ، حتى إذا لججتم به فغرقوه ، فانطلقوا به حتى إذا كانوا في وسط اللجة ، فلما أرادوا به ذلك فقال : اللهم اكفينهم بما شئت ، فانكبت بهم السفينة ، فغرقوا . فجاء الغلام حتى قام بين يدي الملك ، فأخبره بالذي كان ، فقال انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا ، فإذا كنتم في ذروة الجبل ، فدهدهوه عنه فانطلقوا به ، حتى إذا كانوا بذلك المكان فقال : اللهم اكفينهم بما شئت ، فتدهدهوا عن الجبل يميناً وشمالاً ، فجاء حتى قام بين يدي الملك ، فأخبره بالذي كان وقال للملك : إنك لا تقدر على قتلي ، حتى تفعل بي ما آمرك به . فقال : وما هو ؟ قال : تجمع أهل مملكتك في صعيد واحد ، ثم تصلبني ، وتأخذ سهماً من كتابي ، فترميني به وتقول : بسم الله رب هذا الغلام وأخذ سهما من كنانته فرمى به وقال : بسم الله رب هذا الغلام ، فأصاب صدغه ، فوضع يده على صدغه فمات .

فقال الناس : آمنا برب هذا الغلام . فقيل للملك : وقعت فيما كنت تحاذر ، وقد أسلم الناس . فقال : خذوا يا قوم الطريق ، وخذوا فيها أخدوداً ، وألقوا فيها النار . فمن رجع عن دينه وإلا فألقوه فيها ، ففعلوا . فجعل الناس يجيئون ، ويلقون أنفسهم في الأخدود ، حتى كان آخرهم امرأة ، ومعها صبي لها رضيع تحمله ، فلما دنت من النار وجدت حرها ، فولت فقال لها الصبي : يا أماه امضي ، فإنك على الحق ، فرجعت وألقت نفسها في النار . فذلك قوله عز وجل { قُتِلَ أصحاب الأخدود النار ذَاتِ الوقود } .

وروي في خبر آخر ، " أن الملك كان على دين اليهودية ، يقال له : ذو نواس ، واسمه : زرعة ملك حمير ، وما حولها . فكان هناك قوم . دخلوا في دين عيسى ، عليه السلام فحفر لهم أخدوداً ، فأوقد فيها النار ، وألقاهم في الأخدود ، فحرقهم وحرق كتبهم " .

ويقال : كان الذين على دين عيسى عليه السلام بأرض نجران ، فسار إليهم من أرض حمير ، حتى أحرقهم وأحرق كتبهم ، فأقبل منهم رجل ، فوجد مصحفاً فيها وإنجيلاً محترقاً بعضه ، فخرج به حتى أتى به ملك الحبشة فقال له : إن أهل دينك قد أوقدت لهم النار ، فحرقوا بها وحرق كتبهم ، وهذه بعضه . ففزع الملك لذلك ، وبعث إلى صاحب الروم ، وكتب إليه يستمده بنجارين يعملون له السفن . فبعث إليه صاحب الروم ، من يعمل له السفن ، فحمل فيها الناس ، فخرج بهم . فخرجوا ما بين ساحل عدن إلى ساحل جازان ، وخرج إليهم أهل اليمن ، فلقوهم بتهامة ، واقتتلوا ، فلم ير ملك حمير له بهم طاقة ، وتخوف أن يأخذوه ، فضرب فرسه حتى وقع في البحر ، فمات فيه . فاستولى أهل الحبشة على ملك حمير وما حوله ، وبقي الملك لهم ، إلى وقت الإسلام .

وروي في الخبر ، أن الغلام الذي قتله الملك دفن ، فوجد ذلك الغلام في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه واضعاً يده على صدغه ، كما كان وضعها حين قتل ، وكلما أخذت يده سال منه الدم ، وإذا أرسل يده ، انقطع الدم . فكتبوا إلى عمر بن الخطاب بذلك ، فكتب إليهم ، " أن ذلك الغلام صاحب الأخدود ، فاتركوه على حاله حتى يبعثه الله تعالى يوم القيامة على حاله فذلك قوله تعالى : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } يعني : لعن أصحاب الأخدود ، وهم الذين خدوا أخدودا { النار ذات الوقود } ، يعني : الأخدود ذات النار الوقود . ويقال : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } يعني : أهل الحبشة قتلوا أصحاب الأخدود ، أصحاب النار ذات الوقود .