الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلۡوَقُودِ} (5)

وقوله : ( النار ) خفض على البدل من الأخدود ، وهو بدل الاشتمال {[19]} .

وقيل : هو خفض على الجوار ، وذلك بعيد {[20]} .

وفيه تقديران إذا جعلته بدلا .

أحدهما {[21]} : أن {[22]} التقدير : النار ذات الوقود نارها ، والآخر : النار {[23]} التي فيها .

والأخدود : حفير [ مستطيل ] {[24]} كالخندق . يروى {[25]} أنه كان بموضع يقال له [ نجران ] {[26]} أحرق فيه قوم مؤمنون ، أحرقهم ملك من ملوك حمير مشرك ، وكان ذلك قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة {[27]} .

وروى قتادة أن عليل بن أبي طالب رضي الله عنه قال : هم ناس كانوا بمدارع اليمن اقتتل مؤمنوها {[28]} وكافروها ، فظهر مؤمنوها على [ كافريها ] {[29]} ثم اقتتلوا الثانية فظهر كافروها على مؤمنيها ، ثم أخذ بعضهم على بعض عهودا ومواثيق {[30]} ألا يغدر بعضهم ( بعضا ) {[31]} فغدر بهم الكفار فأخذوهم أخذا ، ثم إن رجلا من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى خير {[32]} ؟ توقدون [ نارا ] {[33]} ( ثم ) {[34]} تعرضوننا عليها فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون {[35]} ، ومن لا اقتحم النار [ فاسترحم ] {[36]} منه .

قال : [ فأججوا ] {[37]} نارا وعرضوا {[38]} عليها ، فجعلوا يقتحمونها ضنا بدينهم {[39]} حيث بقيت عجوز منهم كأنها تلكأت {[40]} ، فقال لها طفل في حجرها : يا أمه {[41]} ، امضي ولا تنافقي فقص الله جل ذكره نبأهم {[42]} وخبرهم {[43]} .

وقال ابن عباس : هم ماس من بني إسرائيل ، خدوا أخدودا في الأرض ثم أوقدوا فيه نارا ثم أقاموا علي ذلك الأخدود رجالا ثم عرضوا عليها ، وزعموا {[44]} أنه دانيال {[45]} وأصحابه {[46]} وكذلك قال الضحاك إلا أنه قال : فقالوا للرجال والنساء : تكفرون أو نقذفكم في النار ( قال ) {[47]} .

[ ويزعمون ] {[48]} أنه دانيال {[49]} وأصحابه {[50]} .

وروى صهيب {[51]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنه كان في من كان قبلكم ملك . وكان له ساحر فأتى الساحر الملك فقال : قد كبرت سني ودنا أجلي فادفع إلي غلاما أعلمه السحر ، فدفع إليه غلاما يعلمه السحر ، فكان الغلام يختلف إلى الساحر ، وكان بين الساحر وبين الملك راهب {[52]} .

قال {[53]} : فكان الغلام إذا مر بالراهب قعد إليه فيسمع كلامه ، فأعجب بكلامه ، فكان إذا أتى الساحر {[54]} ضربه الساحر وقال : ما حبسك ؟ .

وإذا أتى الغلام ( إلى ) {[55]} أهله قعد عند الراهب يسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال له الراهب : إذا قال لك الساحر ما حبسك ؟ فقل : حبسني الساحر .

فبينما هو كذلك ، غذ مر في طريق ، وإذا دابة عظيمة في الطريق وقد حبست الناس لا تدعهم يجوزون ، فقال الغلام : الآن أعلم ، أمر الساحر أرض عند الله أم لا أمر الراهب ؟ قال : فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فأني أرمي بهذا الحجر هذا ويمر الناس {[56]} . قال فرماها ، فقتلها وجاز الناس فبلغ ذلك الراهب ، وأتاه لغلام فقال الراهب للغلام : إنك حير مني ، وإن ابتليت فلا تدلن علي .

[ قال ] {[57]} وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء {[58]} . ( قال : وكان للملك جليس فعمي ، قال : فقيل له : إن ها هنا غلاما يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الآذاء {[59]} ) فلو أتيته ؟ قال : فاتخذ له هدايا ، ثم أتاه فقال : يا إلام إن أبرأتني {[60]} فهذه الهدايا كلها لك .

فقال : ما أنا أشفيك ، ولكن الله يشفي ، فإن آمنت دعوت الله أن يشفيك ، قال فآمن الأعمى ، فدعا الغلام الله –جل ذكره- فشفاه ، فقعد {[61]} إلى الملك [ كما كان يقعد ] {[62]} فقال له الملك : أليس كنت أعمى ؟ فقال نعم : قال : فمن شفاك ؟ قال : ربي . قال : ولك رب غيري ؟ قال : نعم ربي وربك الله . قال : فأخذه بالعذاب . وقال [ لتدلنني ] {[63]} على من علمك هذا .

قال : [ فدل ] {[64]} على الغلام ، قل : فدعا الغلام فقال : /ارجع عن دينك . فأبى الغلام ، قال : فأخذه بالعذاب ، فقال : فدل على الراهب ، فأخذ الراهب بالعذاب ، وقال له/ : ارجع عن دينك . فأبى ، قال : فوضع المنشار على هامته فشق حتى بلغ ( إلى ) {[65]} الأرض ، قم قال للغلام : لترجعن أو لأقتلنك {[66]} ، فقال : اذهبوا به حتى تبلغوه ذروة الجبل ، فإن رجع عن دينه وإلا [ دهدهوه ] {[67]} . فلم بلغ ذروة الجبل قال الغلام : اللهم اكفنيهم . فرجف بهم الجبل فوقعوا فماتوا كلهم . وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال : أين أصحابك ؟ قال {[68]} : كفانيهم الله جل ثناؤه . فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه . قال فذهبوا فلما توسطوا به البحر قال الغلام : الله فاكفنيهم . فانقلبت بهم السفينة فغرقوا ، وجاء لغلام [ يتلمس ] {[69]} حتى دخل على الملك ، فقل الملك : أين أصحابك ؟ قال : دعوت الله فكفانيهم . قال : لأقتلنك . قال : ما أنت بقاتلي حتى تصنع ما آمرك . قال : وما أصنع . قال اجمع الناس في صعيد واحد ثم اصلبني ، ثم خذ {[70]} سهما من كنانتي فارمني وقل باسم ب الغلام ، فإنك ستقتلني .

قال : فجمع الملك الناس في صعيد واحد ، قل : وصلب الغلام واخذ سهما من كنانته فوضعه في كبد القوس ثم رمى له ، وقال : باسم الله رب الغلام . [ قال ] {[71]} : فوقع السهم في صدغ {[72]} الغلام ، فوضع الغلام يده على صدغه ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك ما صنعت ؟ الذي كنت تحذر قد وقع ، قد آمن الناس برب الغلام ، فأمر الملك بأفواه الطرق والسكك فأخذت ، وخد الأخدود وضرب فيه النيران وأخضهم وقال : [ ارجعوا وإلا ألقيتكم ] {[73]} في النار . قال : فكانوا يلقونهم في النار . قال : فجاءت امرأة معها صبي . قال : فلما ذهبت تقتحم وجدت حر النار فنكصت {[74]} .

قال : فقال لها صبيها : يا أمه {[75]} امضي ، فإنك على الحق . فاقتحمت في النار {[76]} .

وقال الربيع بن أنس : كان أصحاب الأخدود قوما مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة {[77]} . وإن جبارا من عبدة {[78]} الأوثان أرسل إليهم يعرض عليهم الدخول في دينه أو يلقيهم في النار ، فاختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم ، فألقوا في النار ، فنجى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار من الحريق بأن قبض ( الله ) {[79]} أرواحهم قبل أن تمسهم النار . قال : وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم ، فذلك قوله : ( ولهم عذاب الحريق ) أي : لهم عذاب جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا {[80]} وهي ( النار ) {[81]} التي خرجت إليهم من الأخدود فأحرقتهم .

وقوله : ( ذات الوقود )

أي : ذات الحطب الجزل ، فإن [ ضممت ] {[74851]} الواو {[74852]} فمعناه ذات التوقد {[74853]} . والأخدود " الحفرة تحفر في الأرض " {[74854]}


[19]:- في ح: تصريف.
[20]:- في ع2، ق: ما.
[21]:- في ق: بروايته. وهو تحريف.
[22]:- في ع3: بالكتاب. وهو تحريف.
[23]:- وهو كتاب "مشكل إعراب القرآن".
[24]:- في ع3: بالكتاب. وهو تحريف.
[25]:- في ق، ح: تبين.
[26]:- في ع2، ح، ع3: فيه.
[27]:- في ع3: عني. وهو تحريف.
[28]:- في ق: من. وفي ح: على.
[29]:- في ق: دراسه.
[30]:- في ع2، ع3: كتاب الهداية.
[31]:- في ع2: لا أن.
[32]:- في ق: علوم.
[33]:- في ع1: نهاية.
[34]:- في ع2: وجمعت.
[35]:- هو محمد بن علي بن أحمد المصري، نحوي ومقرئ ومفسر، لزم أبا جعفر النحاس. (ت 388هـ). انظر: طبقات القراء 2/198.
[36]:- في ع3: أن أقضيت.
[37]:- في ع3: كتاب.
[38]:- هو محمد بن جرير، صاحب التفسير والتاريخ، مجتهد مطلق (ت310هـ). انظر: طبقات القراء 2/106 وطبقات المفسرين 82-83.
[39]:- سقط من ق.
[40]:- هو أحمد بن محمد النحوي المصري، أخذ النحو عن المبرد والزجاج وابن الأنباري وغيرهم، له "إعراب القرآن". (ت338هـ). انظر: طبقات النحويين 239 وإنباه الرواة 1/101 ومعجم الأدباء 4/224.
[41]:- هو إبراهيم بن السَّري، من علماء اللغة والنحو، اختص بالمبرد. (ت311هـ). انظر: نزهة الألبا 183، وطبقات النحويين 121.
[42]:- في ع3: بن. وهو خطأ.
[43]:- هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترجمان القرآن، ومؤسس مدرسة التفسير بمكة. روى عنه طاوس وعكرمة وعطاء وغيرهم. (ت68هـ). انظر: طبقات ابن خياط 284، وسير أعلام النبلاء 3/311، وتذكرة الحفاظ 1/40، الإصابة 2/322.
[44]:- هو يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة البصري، مفسر، مقرئ. سمع منه بمصر عبد الله بن وهب (ت 200هـ). انظر: طبقات القراء 2/373 وميزان الاعتدال 3/290.
[45]:- هو يحيى بن زياد بن عبد الله، أبو زكريا، مفسر نحوي، لغوي. روى عن الكسائي. ألَّفَ "معاني القرآن". (ت 207هـ). انظر: طبقات النحويين 143 أو نزهة الألبا 81 أو تذكرة الحفاظ 1/338.
[46]:- سقط من "ق".
[47]:- في ق: اليمن.
[48]:- في خ1: تبارك.
[49]:- في ق: دخزه.
[50]:- في ق: كانت. وهو تصحيف.
[51]:- في ق: خالصاً لوجهه.
[52]:- في ج: ق: علمته.
[53]:- أي كثرة الفهم وقوته يقال: "جمَّ الماءُ" إذا كثر في البئر. اللسان 1/504.
[54]:- في ع2: يذكر لنا.
[55]:- في ق: نرجوه من ثواب الله عز وجل.
[56]:- انظر: المحرر الوجيز 1/61.
[57]:- انظر: التبصرة 54، وأسباب النزول 30 أو الدر المنثور 1/11. ومجاهد هو أبو الحجاج بن جبر المخزومي المكي إمام في التفسير، قرأ على ابن عباس، وروى عنه قتادة وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء. (ت103 هـ). انظر: طبقات ابن خياط 280 وتذكرة الحفاظ 1/92 وسير أعلام النبلاء 4/449 وطبقات القراء 2/41.
[58]:- سقط من ق.
[59]:- وبنفس التعليل قال ابن عطية في المحرر الوجيز 1/61.
[60]:- في ق، ع3: صلى الله عليه وسلم.
[61]:- في ع2 ثلاث مرات، وفي ح، ع3 ثلاث مرات. والحديث في الموطأ 1/84، وصحيح مسلم 1/296 وسنن الترمذي 5/202 وسنن أبي داود 1/188. وسنن النسائي 2/135.
[62]:- في ع3: الخِداع.
[63]:- في ح: يزول.
[64]:- في ق: ذكره.
[65]:- هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد سيدة نساء العالمين. مناقبها كثيرة توفيت (رضي الله عنها) قبل الهجرة بثلاث سنوات. انظر: الإصابة ص 333 وطبقات ابن سعد 8/1914، وسير أعلام النبلاء 2/109.
[66]:- ورقة بن نوفل بن أسد القرشي، اتزل الأوثان وتنصر، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم توفي عام 611م. انظر الإصابة 5/607 (ط القاهرة).
[67]:- في ع2 النبي وهو خطأ.
[68]:- في ع2، ق: خطبه. وهو تحريف.
[69]:- التصويب من"ق"، وفي غيرها: فقال لها.
[70]:- رواه البيهقي عن عمرو بن شرحبيل، وقال: حديث منقطع. انظر: دلائل النبوة 1/412.
[71]:- سقط الواو من ق.
[72]:- هو سعيد بن جبير بن هشام الأسدي من كبار التابعين وأشهرهم في التفسير. روى عن ابن عباس، وابن مسعود، وروى عنه الأعمش وغيره قتله الحجاج الثقفي عام 95هـ انظر: طبقات ابن خياط 280 وتذكرة الحفاظ 1/76، وسير أعلام النبلاء 4/321.
[73]:- هو أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي، مفسر وفقيه. سمع من أبي هريرة وابن عباس، وروى عنه ابن جريج وابن إسحاق وغيرهما (ت114). انظر: طبقات ابن خياط 247 وطبقات ابن سعد 2/386، وتذكرة الحفاظ: 1/98.
[74]:- انظر: تفسير القرطبي 1/109، والدر المنثور 1/109.
[75]:- المصدر السابق.
[76]:- في ق: قدرها.
[77]:- في ق: تدل. وهو خطأ.
[78]:- العلق آية 1.
[79]:- العلق آية 5.
[80]:- انظر: صحيح البخاري 1/3.
[81]:- انظر: سنن أبي داود 1/189 وسنن النسائي 2/197.
[74851]:م: طمست، ث: صممت.
[74852]:قرأ بالضم عيسى والحسن في المختصر لابن خالوبيه: 171، وقرأ به أيضاً أبو رجاء وأبو حيوة في المحرر 16/270.
[74853]:انظر: هذا التوجيه في معاني الأخفش 2/737 بنحوه، وجامع البيان 30/135.
[74854]:انظر: جامع البيان 30/136.