تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

الرقابة الإلهية

{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ( 5 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 6 ) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 7 ) }

/*

تمهيد :

تحدثت آيات سابقة عن رعاية الله للمؤمنين ، واستجابته لشكوى المجادلة ، وهنا يتهدد المخالفين الذين يعادون حدود الله وأحكامه ، ويفرون من أوامره وشرائعه ، بأن الله سيذلهم كما أذل من كفر بالرسل بالغرق وألوان الهلاك ، أو كما أذل قتلى بدر وأذل قريشا ومن شايعها ، ثم يلفت نظرهم إلى يوم القيامة ، حيث يخبرهم بأعمالهم كاملة ، ويجازيهم عليها جزاء وفاقا .

وتصور الآيات علمه تعالى الشامل ، وإحاطته بكل ما في السماوات والأرض ، فهو يعلم السر والنجوى ، لا يتناجى ثلاثة إلا كان رابعهم ، ولا يتناجى خمسة إلا كان سادسهم ، ولا يتناجى أقل من ذك ولا أكثر إلا كان معهم بعلمه وإحاطته ، ثم يخبرهم بما عملوه يوم القيامة ، إنه سبحانه بكل شيء عليم ، إن هذه الرقابة الإلهية هي التي أيقظت الضمائر والقلوب ، وجعلت الإنسان مراقبا لله ، خائفا من معصيته ، راغبا في طاعته .

*م/

المفردات :

يحادون : يشاقون ويعادون ، وأصل المحادّة : الممانعة ، ومنه قيل للبواب : حداد .

كُبتوا : خُذلوا ، وقال المبرد : كبت الله فلانا ، ، إذا أذله ، والمردود بالذل مكبوت .

مهين : يلحق بهم الهوان والذل .

التفسير :

5- { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } .

المحادة : المعاداة والمخالفة في الحد ، أي : الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده الله ورسوله ، فهم ينفرون من حدود الله وأحكامه ، ويرتضون أحكاما تخالفها وتضادها ، هؤلاء أخزاهم الله وأذلهم كما أذل أعداء الرسل ، من عهد نوح ومن بعده من المرسلين .

لقد شرع الله الشرائع ، وفصل الآيات ، وحدد الحدود ، ونظم المواريث والآداب ، وأمر بغض البصر وحفظ الفروج ، والبعد عن الزنا والربا ، وأمر بصلة الأرحام وبر الوالدين وإكرام الجار ، ورعاية اليتامى والمساكين ، والضعفاء والفقر والفقراء ، ونهى عن الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل ، وأكمل الله دينه .

قال سبحانه وتعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . . . ( المائدة : 3 )

فهناك وعيد عظيم لمن وضعوا أمورا خلاف ما حدده الشرع ، وسموها قانونا .

قال الآلوسي والمراغي في تفسير الآية :

نعم لا بأس بالقوانين السياسية ، إذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد ، على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات ، إذا كانت لا تخالف في أحكامها روح التشريع الديني ، كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي والجنايات التي لم ينص عليها الشارع فيها على حد معين ، بل فوض الأمر فيها للإمام ، وليس في ذلك محادة لله ورسوله ، بل فيها استيفاء لحق الله على الوجه الأكمل .

وفي كتاب ( الخراج ) للإمام أبي يوسف إشارة إلى ذلك ، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه ، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامهvii .

ودليل الاجتهاد فيما لم تنص عليه الشريعة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل معاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي إلى اليمن قاضيا ومفقها وأميرا وجامعا للزكاة ، قال له : " كيف تصنع إذا عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله ، قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله علليه وسلم " ؟ قال : أجتهد ريي لا آلو – أي لا أقصر – قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " viii . ( رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة ) .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

قوله تعالى :{ إن الذين يحادون الله ورسوله } لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها ، والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود ، وهو مثل قوله تعالى : { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله }{[14769]} " [ الأنفال : 13 ] ، وقيل : " يحادون الله " أي أولياء الله كما في الخبر : ( من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ) . وقال الزجاج : المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحداد للبواب . " كبتوا " قال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا . وقال قتادة : أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم . وقال ابن زيد : عذبوا . وقال السدي : لعنوا ، وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق . وقيل : يوم بدر ، والمراد المشركون ، وقيل : المنافقون . { كما كبت الذين من قبلهم } قيل : " كبتوا " أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه . وقيل : هي بلغة مذحج{[14770]} .

{ وقد أنزلنا آيات بينات } فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم ، { والله على كل شيء شهيد } .


[14769]:راجع جـ 18 ص 6.
[14770]:مذحج ـ كمسجد ـ: أبو قبيلة باليمن.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَقَدۡ أَنزَلۡنَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۚ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (5)

ولما ذكر حدوده ، ولوح بالعطف على غير معطوف عليه إلى بشارة حافظها ، وصرح بتهديد متجاوزيها أتبع ذلك تفصيل عذابهم الذي منه بشارة المؤمنين بالنصر عليهم ، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يغلبوا على كثرتهم وقوتهم وضعف حزبه{[63149]} وقلتهم : { إن الذين يحادّون الله } أي يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها ، وذلك صورته صورة العداوة ، مجددين ذلك مستمرين عليه بأي محادة كانت{[63150]} ولو كانت خفية{[63151]} - بما أشار إليه الإدغام كمحادة{[63152]} أهل الاتحاد الذين يتبعون المتشابه فيجرونه{[63153]} على ظاهره فيخلون{[63154]} به المحكم لتخل الشريعة بأسرها ، فإن كثيراً من السور{[63155]} نزل في المنافقين واليهود والمهادنين كما يأتي في النجوى وغيرها { ورسوله } الذي عزه من عزه{[63156]} { كبتوا } أي صرعوا وكبوا لوجوههم وكسروا وأذلوا{[63157]} وأخزوا فلم يظفروا وردوا بغيظهم في كل{[63158]} أمر يرومونه من أي كانت{[63159]} كان {[63160]}بأيسر أمر وأسهله{[63161]} ، وعبر بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه والفراغ من قضائه كما فرغ مما مضى ، فلذا قال لتكون الدعوى مقرونة بدليلها : { كما كبت الذين } ولما كان المحادون لم يستغرقوا جميع{[63162]} الأزمان الماضية{[63163]} والأماكن ، أدخل الجارّ فقال : { من قبلهم } أي{[63164]} المحادين كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصر على العصيان ، ولم ينقد لدليل ولا برهان ، قال القشيري : ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ، ووقع في هذا الذل .

ولما استوفى المقام حظه بياناً وترغيباً وترهيباً ، عطف على أول السورة أو{[63165]} على ما يقدر من نحو : فقد كان لكم فيما مضى من أول الإسلام إلى هذا الأوان مما يدل على كونه سبحانه بالنصر والمعونة مع نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم معتبر ، قوله : { وقد أنزلنا } أي{[63166]} بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم { آيات بينات } أي دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان بترك المحادة ويحصل الإذعان . ولما كان التقدير : فللمؤمنين بها نعيم مقيم في مقام أمين{[63167]} ، عطف عليه قوله : { وللكافرين } أي{[63168]} الراسخين في الكفر بها وتغيرها من أمر الله { عذاب مهين * } بما تكبروا واغتروا على أولياء الله وشرائعه ، يهينهم{[63169]} ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم .


[63149]:- من ظ وم، وفي الأصل: حزبهم به.
[63150]:- زيد من م.
[63151]:- من ظ و م، وفي الأصل: حقيقة.
[63152]:- من ظ وم، وفي الأصل: بمحادة.
[63153]:- من ظ و م، وفي الأصل: فيجرون.
[63154]:- من ظ وم، وفي الأصل: فيجعلون.
[63155]:- من م، وفي الأصل وظ: السور.
[63156]:- من ظ و م، وفي الأصل: عزره.
[63157]:- من ظ وم، وفي الأصل: أزلوا-كذا.
[63158]:- زيد من ظ وم.
[63159]:- من ظ وم، وفي الأصل: أمر.
[63160]:- من ظ وم، وفي الأصل: بأمره بأسهله.
[63161]:- من ظ وم، وفي الأصل: بأمره بأسهله.
[63162]:-من م، وفي الأصل: الزمان الذي مضى، وفي ظ: الأزمان الذي مضى.
[63163]:- من م، وفي الأصل: الزمان الذي مضى، وفي ظ: الأزمان الذي مضى.
[63164]:- زيد في ظ وم: من.
[63165]:- من ظ وم، وفي الأصل: "و".
[63166]:- زيد من ظ وم.
[63167]:- من ظ وم، وفي الأصل: آمنين.
[63168]:- زيد من ظ و م.
[63169]:- من ظ وم، وفي الأصل: لسهم-كذا.