{ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب ( 17 ) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ( 18 ) والطير محشورة كل له أواب ( 19 ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ( 20 )* }
الأيد : القوة في العبادة ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما .
أواب : رجاع إلى الله أو مسبّح ، من قولهم : آب إذا رجع ، قال عبيد بن البرص :
وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
17-{ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب } .
أي : اصبر يا محمد على أذى قومك ، وعلى قولهم : { ساحر كذاب } . وقولهم : { اجعل الآلهة إلها واحدا . . . } وغير ذلك من أقوالهم ، واذكر لهم قصة داود عليه السلام ، صاحب القوة في الدين ، والرجوع إلى الله تعالى بالصلاة والتسبيح وقراءة الزبور والمزامير .
قال ابن كثير : ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفرّ إذا لاقى ، وإنه كان أوبا " {[573]} .
أي : رجاعا إلى الله تعالى في جميع شئونه ، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله ، استغفر الله .
وأخرج البخاري في تاريخه ، عن أبي الدرداء قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال : " كان أعبد البشر "
والخلاصة : إن داود كان قويا في دينه بالصلاة والصيام والعبادة ، وكان رجاعا توابا على الله .
وفي القرآن الكريم : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل . . . } [ الأحقاب : 35 ] .
قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون ) أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر لما استهزؤوا به . وهذه منسوخة بآية السيف . " واذكر عبدنا داود " لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم ، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم ، وسلاه بكل ما تقدم ذكره . ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء ؛ ليتسلى بصبر من صبر منهم ؛ وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء . وقيل : المعنى اصبر على قولهم ، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء ؛ لتكون برهانا على صحة نبوتك . وقول : " عبدنا " إظهارا لشرفه بهذه الإضافة " ذا الأيد " ذا القوة في العبادة . وكان يصوم يوما ويفطر يوما وذلك أشد الصوم وأفضله ، وكان يصلي نصف الليل ، وكان لا يفر إذا لاقى العدو ، وكان قويا في الدعاء إلى الله تعالى . ويقال : الأيد والآد كما تقول العيب والعاب . قال :
لم يكُ يَنْآدُ فأمْسَى انْآدَا***ومنه رجل أيد أي قوي .
وتأيَّد الشيء تقوَّى ، قال الشاعر :
إذا القوسُ وتَّرَهَا أَيِّدٌ *** رَمَى فأصابَ الكُلّى والذُّرَا
يقول : إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم . يعني من النبات الذي يكون من المطر . " إنه أواب " قال الضحاك : أي تواب . وعن غيره : أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) . ويقال آب يؤوب إذا رجع ، كما قال :
وكل ذي غيبة يؤوبُ *** وغائب الموت لا يؤوبُ
فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به .
{ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب } الأيد القوة ، وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك والجنود ، والأواب : الرجاع إلى الله .
فإن قيل : ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود ؟ فالجواب عندي : أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، ووعد له بالنصر وتفريج الكرب وإعانة له على ما أمر به من الصبر ، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال ، وشدة ملكه ، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب ، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب ، فكأنه يقول : يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعم كذلك ننعم عليك ، فاصبر ولا تحزن على ما يقولون ؛ ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب ، ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء والمقصد ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضا فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرجها الله عنهم ، وأعقبها بالخير العظيم ، فأمر سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بذكرهم ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه ويعقبها بالنصر والظهور عليهم ، فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية : المعنى : اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأس به وتأيد كما تأيد ، وأجاب الزمخشري عن السؤال فإنه قال : كأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر المعصية في أعين الكفار بذكر قصة داود ، وذلك أنه نبي كريم عند الله ، ثم زل زلة فوبخه الله عليها فاستغفر وأناب ، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم ، وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء الأدب مع داود عليه السلام حيث جعله مثالا يهدد الله به الكفار وصرح بأنه زل وأن الله وبخه على زلته ، ومعاذ الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا .
ولما بلغ السيل في ركوبهم الباطل عناداً - الزبى ، وتجاوز في طغيانه رؤوس الربى ، وكان سؤالهم في تعجيل العذاب استهزاء مع ما قدموا من الإكذاب ، والكلام البعيد عن الصواب ، ربما اقتضى أن يسأل في تعجيل ما طلبوا ، وربما أوقع في ظن أن إعراضهم والابتلاء بهم ربما كان لشيء في البلاغ أو المبلغ ، بين تعالى أن عادته الابتلاء للصالحين رفعة لدرجاتهم ، فقال تعالى مسلياً ومعزياً ومؤسياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بمن تقدمه من إخوانه الأنبياء والمرسلين ، مذكراً له بما قاسوا من الشدائد وما لاقوا من المحن ، وحاثاً على العمل بأعمالهم آمراً بالتأني والتؤدة والحلم ، ومحذراً من العجلة والتبرم والضجر ، وبدأ بأهل الشرف لأن السياق لشرف القرآن الذي يلزم منه شرف صاحبه ، تعريفاً بأنه لا يلزم من الشرف الراحة في الدنيا ، ومنبهاً على أن شرفه محوج عن قرب بكثرة الأتباع إلى الحكم بين ذوي الخصومات والنزاع الذي لا قوام له إلا بالحلم والأناة والصبر ، وبدأ من أهل الشرف بمن كان أول أمره مثل أول أمر هذا النبي الكريم في استضعاف قومه له وآخر أمره ملكاً ثابت الأركان مهيب السلطان ، ليكون حاله مثلاً له فيحصل به تمام التسلية : { اصبر } وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال : { على ما } وزاد في الحث عليه بالمضارع فقال : { يقولون } أي يجددون قوله في كل حين من الأقوال المنكية الموجعة المبكية ، فإنه ليس لنقص فيك ، ولكنه لحكم تجل عن الوصف ، مدارها زيادة شرفك ورفعة درجاتك ، وصرف الكلام إلى مقام العظمة لاقتضاء ما يذكر من التسخير لذلك : { واذكر عبدنا } أي الذي أخلصناه لنا وأخلص نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا ، وأبدل منه أو بينه بقوله : { داود ذا الأيد } أي القوى العظيمة في تخليص نفسه من علائق الأجسام ، فكانت قوته في ذلك سبباً لعروجه إلى المراتب العظام .
ولما كان أعظم الجهاد الإنقاذ من حفائر الهفوات وأوامر الشهوات ، بالإصعاد في مدارج الكمالات ، ومعارج الإقبال ، وكان ذلك لا يكاد يوجد في الآدميين لما حفوا به من الشهوات وركز في طباعهم من الغفلات ، علل قوته بقوله مؤكداً : { إنه أواب * } أي رجاع إلى الله تعالى ليصير إلى ما خلقه عليه من أحسن تقويم بالعقل المحض أطلق العلو درجة درجة على الرجوع ، لأن ذلك دون الرتبة التي تكون نهاية عند الموت ، فكان المقضي له بها أنزل نفسه عنها ، ثم صار يرجع إليها كل لحظة بما يكابد من المجاهدات والمنازلات والمحاولات حتى وصل إليها بعد التجرد عن الهوى كله .