5 ، 6- فإنّ مع العسر يسرا* إنّ مع العسر يسرا .
إن مع الشدة فرجا ، ومع الصبر والكفاح نجاحا وفلاحا ، وقد حدثت للدعوة الإسلامية وللمسلمين في فجر الإسلام مضايقات من كفار مكة ، فنزلت هذه الآيات تؤكد لهم أن مع العسر والضيق وتكالب كفار مكة على الإسلام ، سيأتي يسر وفرج ، فقد تمت الهجرة وتم نصر المسلمين في بدر ، وتوالي نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا .
والآية السادسة تكرير وتأكيد للآية الخامسة ، ويحتمل أن يكون لها معنى جديد ، وهو قدوم اليسر والنصر العظيم ، والغنى والفرج والمغانم .
حيث كان كفار مكة يعيّرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بالفقر ، فنزلت الآيات تبشّره بأن الشدة ستزول ، وأن اليسر سيأتي بعد العسر ، وبالفعل أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأمّته ، ففتح الله له البلاد ، ودان له العباد ، ودخل الناس في الإسلام أفواجا وجماعات ، وبلادا وأمما .
وقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } بشارة عظيمة ، أنه كلما وجد عسر وصعوبة ، فإن اليسر يقارنه ويصاحبه ، حتى لو دخل العسر جحر ضب لدخل عليه اليسر ، فأخرجه كما قال تعالى : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن الفرج مع الكرب ، وإن مع العسر يسرا " .
وتعريف " العسر " في الآيتين ، يدل على أنه واحد ، وتنكير " اليسر " يدل على تكراره ، فلن يغلب عسر يسرين .
وفي تعريفه بالألف واللام الدالة على الاستغراق والعموم يدل على أن كل عسر -وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ- فإنه في آخره التيسير ملازم له .
قوله تعالى : { فإن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا }
أي إن مع الضيقة والشدة يسرا ، أي سعة وغنى . ثم كرر فقال : " إن مع العسر يسرا " ، فقال قوم : هذا التكرير تأكيد للكلام ، كما يقال : ارم ارم ، اعجل اعجل ، قال اللّه تعالى : " كلا سوف{[16171]} تعلمون . ثم كلا سوف تعلمون " [ التكاثر : 3 ] . ونظيره في تكرار الجواب : بلى بلى ، لا لا . وذلك للإطناب والمبالغة . قاله الفراء . ومنه قول الشاعر :
هممتُ بنفسيَ بعضَ الهموم *** فأولَى لنفسي أولَى لها{[16172]}
وقال قوم : إن من عادة العرب إذا ذكروا اسما معرفا ثم كرروه ، فهو هو . وإذا نكروه ثم كرروه فهو غيره . وهما اثنان ، ليكون أقوى للأمل ، وأبعث على الصبر . قاله ثعلب . وقال ابن عباس : يقول اللّه تعالى خلقت عسرا واحدا ، وخلقت يسرين ، ولن يغلب عسر يسرين . وجاء في الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذه السورة : أنه قال : [ لن يغلب عسر يسرين ] . وقال ابن مسعود{[16173]} : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في حجر ، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، ولن يغلب عسر يسرين . وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم ، وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر رضي اللّه عنهما : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة ، يجعل اللّه بعده فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن اللّه تعالى يقول في كتابه : " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{[16174]} " [ آل عمران : 200 ] . وقال قوم منهم الجرجاني : هذا قول مدخول ؛ لأنه يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إن مع الفارس سيفا ، إن مع الفارس سيفا ، أن يكون الفارس واحدا والسيف اثنان . والصحيح أن يقال : إن اللّه بعث نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم مُقِلاًّ مُخِفًّا ، فعيره المشركون بفقره ، حتى قالوا له : نجمع لك مالا ، فاغتم وظن أنهم كذبوه لفقره ، فعزاه اللّه ، وعدد نعمه عليه ، ووعده الغنى بقوله : " فإن مع العسر يسرا " أي لا يحزنك ما عيروك به من الفقر ، فإن مع ذلك العسر يسرا عاجلا ، أي في الدنيا . فأنجز له ما وعده ، فلم يمت حتى فتح عليه الحجاز واليمن ، ووسع ذات يده ، حتى كان يعطي الرجل المائتين من الإبل ، ويهب الهبات السنية ، ويعد لأهله قوت سنة . فهذا الفضل كله من أمر الدنيا ، وإن كان خاصا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقد يدخل فيه بعض أمته إن شاء اللّه تعالى . ثم ابتدأ فضلا آخرا من الآخرة وفيه تأسية وتعزية له صلى اللّه عليه وسلم ، فقال مبتدئا : " إن مع العسر يسرا " فهو شيء آخر . والدليل على ابتدائه ، تعريه من فاء أو واو أو غيرها من حروف النسق التي تدل على العطف . فهذا وعد عام لجميع المؤمنين ، لا يخرج أحد منه ، أي إن مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسرا في الآخرة لا محالة . وربما اجتمع يسر الدنيا ويسر الآخرة . والذي في الخبر : [ لن يغلب عسر يسرين ] يعني العسر الواحد لن يغلبهما ، وإنما يغلب أحدهما إن غلب ، وهو يسر الدنيا ، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة ، ولن يغلبه شيء . أو يقال : " إن مع العسر " وهو إخراج أهل مكة النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة " يسرا " ، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل ، مع عز وشرف .
ولما ذكر هذه المآثر الشريفة التي هي الكمال ، وكان الكمال لا يصفو إلا مع مساعدة الأقدار ، فإن الهمم إذا عظمت اتسعت مجالاتها ، فإذا حصل فيها تعطيل حصل فيها نكد حسبه ، بين أنه أزال عنه العوائق في عبارة دالة على أن سبب المنحة بهذه الكمالات هو ما كان صلى الله عليه وسلم فيه من الصبر على الأكدار ، وتجرع مرارات الأقدار ، فقال مؤكداً ترغيباً في حمل مثل ذلك رجاء في الإثابة بما يليق من هذه المعالي مبالغاً في الحث على تحمله بذكر المعية إشارة إلى تقارب الزمنين بحيث إنهما كانا كالمتلازمين مسبباً عما مضى ذكره من حاله من الضحى : { فإن } أي فعل بك سبحانه هذه الكمالات الكبار بسبب أنه قضى في الأزل قضاء لا مرد له ولا معقب لشيء منه أن { مع العسر } أي هذا النوع خاصة { يسراً * } أي عظيماً جداً يجلب به المصالح ويشرح به ما كان قيده من القرائح ، فإن أهل البلاء ما زالوا ينتظرون الرخاء علماً منهم بالفطرة الأولى التي فطر الناس عليها أنه المتفرد بالكمال ، وأنه الفاعل بالاختيار لنسمه الكوائن بأضدادها ، وقد أجرى سنته القديمة سبحانه وتعالى بأن الفرج مع الكرب ، فلما قاسى صلى الله عليه وسلم مما ذكر في الضحى من اليتم الشديد وضلال قومه العرب خاصة كلهم الذين ألهمه الله تعالى مخالفتهم في أصل الدين بتجنب الأوثان ، وفي فرعه بالوقوف مع الناس في الحج في عرفة موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومن العيلة ما لم يحمله أحد حتى كان بحيث يمتن سبحانه وتعالى عليه بإنقاذه منه في كتابه القديم وذكره الحكيم ، وكان مع تحمل ذلك قائماً بما يحق له من الصبر ويعلو إلى معالي الشكر " فيحمل " - كما قالت الصديقة الكبرى خديجة رضي الله تعالى عنها - " الكَلَّ ، ويقري الضيف ، ويصل الرحم ، ويعين على نوائب الحق " .
ثم حمل أعباء النبوة فكان يلقى من قومه من الأذى والكرب والبلاء ما لم يحمله غيره ، بشره الله تعالى بأنه ييسر له جميع ذلك ويلين قلوبهم فيظهر دينه على الدين كله ، ويغني أصحابه رضي الله عنهم بعد عيلتهم ، ويكثرهم بعد قلتهم ، ويعزهم بعد ذلتهم ، ويصير هؤلاء المخالفون له أعظم الأعضاد ، وينقاد له المخالف أتم انقياد ، ويفتح له أكثر البلاد ، ليكون هذا العطاء في اليسر بحسب ما كان وقع من العسر ، فإنه قضى سبحانه وتعالى قضاء لا يرتد أنه يخالف بين الأحوال ، دليلاً قاطعاً على أنه تعالى وحده الفعال ، وأن فعله بالاختيار ، لا بالذات والإجبار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.